{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ أي : صنفين ] ، ذكر وأنثى ، من كل نوع من أنواع الحيوانات ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ لنعم الله التي أنعم بها عليكم ]{[862]} في تقدير ذلك ، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها ، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها ، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع .
ثم قال - تعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أى : نوعين متقابلين كالذكر والأنثى . والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والغنى والفقر ، والهدى والضلال .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون وتتعظون وتتذكرون ما يجب عليكم نحونا من الشكر والطاعة وإخلاص العبادة لنا وحدنا .
( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) . .
وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض - وربما في هذا الكون . إذ أن التعبير لا يخصص الأرض - قاعدة الزوجية في الخلق . وهي ظاهرة في الأحياء . ولكن كلمة( شيء )تشمل غير الأحياء أيضا . والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية .
وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا . وأن فكرة عموم الزوجية - حتى في الأحياء - لم تكن معروفة حينذاك . فضلا على عموم الزوجية في كل شيء . . حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم . . وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير !
كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة . وهي تكاد تقرر أن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة . وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء : موجب وسالب ! فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النص العجيب . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِن كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وخلقنا من كلّ شيء خلقنا زوجين ، وترك خلقنا الأولى استغناء بدلالة الكلام عليها .
واختلُف في معنى خَلَقْنا زَوْجَيْنِ فقال بعضهم : عنى به : ومن كلّ شيء خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة والهدى والضلالة ، ونحو ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، في قوله : وَمِنْ كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجِينِ قال : الكفر والإيمان ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلالة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والإنس والجنّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاريّ ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَمِنْ كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ قال : الشمس والقمر .
وقال آخرون : عنى بالزوجين : الذكر والأنثى . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنْ كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ قال : ذكرا وأنثى ، ذاك الزوجان ، وقرأ وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَة قال : امرأته .
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد ، وهو أن الله تبارك وتعالى ، خلق لكلّ ما خلق من خلقه ثانيا له مخالفا في معناه ، فكلّ واحد منهما زوج للاَخر ، ولذلك قيل : خلقنا زوجين . وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك من قوله على قُدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء ، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه ، إذ كلّ ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه كالنار التي شأنها التسخين ، ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي شأنه التبريد ، ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال ، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كلّ ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة .
وقوله : لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول : لتذكروا وتعتبروا بذلك ، فتعلموا أيها المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه ، وابتداع زوجين من كلّ شيء لا ما لا يقدر على ذلك .
لما أشعر قوله : { فرشناها فنعم الماهدون } [ الذاريات : 48 ] بأن في ذلك نعمة على الموجودات التي على الأرض ، أُتبع ذلك بصفة خلق تلك الموجودات لما فيه من دلالة على تفرد الله تعالى بالخلق المستلزم لتفرده بالإِلهية فقال : { ومن كل شيء خلقنا زوجين } والزوج : الذكر والأنثى . والمراد بالشيء : النوع من جنس الحيوان . وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يُزوج من ذكر وأنثى .
وهذا الاستدلال عليهم بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم ، وقَدحوا أفكارهم ، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإِنشاء الخلق بعد الفناء . وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرّب بما هو واضح من أحوال أمثالها .
ولذلك أتبعه بقوله : { لعلكم تذكرون } ، أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات ، وتتفكرون في مراتب الإِمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا الغريب محالاً .
فالتذكر مستعمل في إعادة التفكر في الأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوه فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوه فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيهاً بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه { لعلكم تذكرون } . وهذا في معنى قوله تعالى : { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } [ الواقعة : 60 62 ] فقد ذُيل هنالك بالحث على التذكر ، كما ذيل هنا برجاء التذكر ، فأفاد أن خلق الذكر والأنثى من نطفة هو النشأة الأولى وأنها الدالة على النشأة الآخرة .
وجملة { لعلكم تذكرون } تعليل لجملة { خلقنا زوجين } أي رجاء أن يكون في الزوجين تذكر لكم ، أي دلالة مغفول عنها . والقول في صدور الرجاء من الله مبين عنه قوله تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون } في سورة البقرة ( 52 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} يعني صنفين؛ يعني الليل والنهار، والدنيا والآخرة، والشمس والقمر، والبر والبحر، والشتاء والصيف، والبرد والحر، والسهل والجبل، والسبخة والعذبة.
{لعلكم تذكرون} فيما خلق أنه ليس له عدل ولا مثيل، فتوحدونه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وخلقنا من كلّ شيء خلقنا زوجين، وترك خلقنا الأولى استغناء بدلالة الكلام عليها.
واختلُف في معنى" خَلَقْنا زَوْجَيْنِ"؛
فقال بعضهم: عنى به: ومن كلّ شيء خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة والهدى والضلالة، ونحو ذلك... قال مجاهد، في قوله: "وَمِنْ كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجِينِ" قال: الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجنّ...
وقال آخرون: عنى بالزوجين: الذكر والأنثى...
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد، وهو أن الله تبارك وتعالى، خلق لكلّ ما خلق من خلقه ثانيا له مخالفا في معناه، فكلّ واحد منهما زوج للآخر، ولذلك قيل: خلقنا زوجين. وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك من قوله على قُدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه، إذ كلّ ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه كالنار التي شأنها التسخين، ولا تصلح للتبريد، وكالثلج الذي شأنه التبريد، ولا يصلح للتسخين، فلا يجوز أن يوصف بالكمال، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كلّ ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة.
وقوله: "لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" يقول: لتذكروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كلّ شيء لا ما لا يقدر على ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن كل شيء خلقنا زوجين}... أصله أنه يخرّج على وجهين:
أحدهما: {زوجين} أي شكلين، فيُعلِم بعضه بعضا، أو ضدّين فيناقض بعضه بعضا، والله سبحانه وتعالى ليس بذي شكل ولا بذي ضدّ. فيدلّ ما أنشأ من الأضداد والأشكال على وحدانيته وألوهيّته.
والثاني: خلق الأشياء صنفين مختلفين متضادّين ليدلّ على إيجاب المِحن عليهم من نحو عُسرٍ ويُسرٍ وغنى وحاجة وخير وشر، ليمتحنهم على اختلاف الأحوال وتضادّها، فيُرغّبهم في كل مرغوب، ويحذّرهم عن كل محذور، والله أعلم...
وقوله تعالى: {لعلّكم تذكّرون} أي تذكرون آيات وحدانيته وألوهيته، أو تذكرون باختلاف الامتحان البعث والثواب والعقاب، والله أعلم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} فإن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة، إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له، بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها. (الإحياء: 3/30)
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} استدلالا بما بينهما والزوجان إما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك، وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند... وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه...
قوله تعالى: {لعلكم تذكرون} أي لعلكم تذكرون أن خالق الأزواج لا يكون له زوج وإلا لكان ممكنا فيكون مخلوقا ولا يكون خالقا، أو {لعلكم تذكرون} أن خالق الأزواج لا يعجز عن حشر الأجسام وجمع الأرواح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا. وأن فكرة عموم الزوجية -حتى في الأحياء- لم تكن معروفة حينذاك. فضلا على عموم الزوجية في كل شيء.. حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم.. وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والزوج: الذكر والأنثى. والمراد بالشيء: النوع من جنس الحيوان. وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يُزوج من ذكر وأنثى. وهذا الاستدلال عليهم بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم، وقَدحوا أفكارهم، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإِنشاء الخلق بعد الفناء. وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرّب بما هو واضح من أحوال أمثالها. ولذلك أتبعه بقوله: {لعلكم تذكرون}، أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات، وتتفكرون في مراتب الإِمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا الغريب محالاً. فالتذكر مستعمل في إعادة التفكر في الأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوه فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوه فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيهاً بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه {لعلكم تذكرون}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
والقضية التي تفرض نفسها على التفكير في هذه المسألة، هي أن الله في شمول عبارة «كل شيء» يؤكد على وحدة الأساس الذي يرتكز عليه النظام الكوني، وهو قانون الزوجية الذي تتنوع مفرداته وأشكاله وأوضاعه وأساليب حركته، ما يفتح أمام الإنسان باب السعي لاكتشاف التفاصيل، ذلك أن الله أراد لكتابه أن يشير إلى العنوان، ليبحث الناس في المعنون الذي يختفي وراءه تارة، وأراد أن يشير إلى المنهج أخرى، لينطلق الفكر لاكتشاف مفرداته. فالقرآن لا يدخل في تفاصيل النظرية، بل يوحي بها، كمنطلقٍ للبحث وللتفكير.