{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ } أي : اعتمدت في أمري كله على الله { رَبِّي وَرَبُّكُمْ } أي : هو خالق الجميع ، ومدبرنا وإياكم ، وهو الذي ربانا .
{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه ، فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي ، والله لم يسلطكم علي ، لم تقدروا على ذلك ، فإن سلطكم ، فلحكمة أرادها .
ف { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : على عدل ، وقسط ، وحكمة ، وحمد في قضائه وقدره ، في شرعه وأمره ، وفي جزائه وثوابه ، وعقابه ، لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم ، التي يحمد ، ويثنى عليه بها .
ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الذى دعاه إلى البراءة من شركهم ، وإلى عدم المبالاة بهم فقال - كما حكى القرآن عنه - { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ . .
أى : إني فوضت أمرى إلى الله الذى هو ربى وربكم ، ومالك أمرى وأمركم ، والذى لا يقع فى هذا الكون شئ إلا بإرادته ومشيئته .
وفى قوله : { رَبِّي وَرَبِّكُمْ } مواجهة بالحقيقة التى ينكرونها ، لإِفهامهم أن إنكارهم لا قيمة له ، وأنه إنكار عن جحود وعناد . . فهو - سبحانه - ربهم سواء أقبلوا ذلك أم رفضوه . وقوله { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } تصوير بديع لشمول قدرته - سبحانه - والأخذ : هو التناول للشئ عن طريق الغلبة والقهر .
والناصبة : منبت الشعر فى مقدم الرأس ، ويطلق على الشعر النابت نفسه .
قال الإِمام الرازى : واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان . أى أنه مطيع له ، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته . وكانوا إذا أسروا أسير وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا فى القرآن بما يعرفون .
والمعنى : إنى اعتمدت على الله ربى وربكم : ما من دابة تدب على وجه الأرض إلا والله - تعالى - مالكها وقاهر لها ، وقادر عليها ، ومتصرف فيها كما يتصرف المالك فى ملكه .
وفى هذا التعبير الحكيم صورة حسية بديعة تناسب المقام ، كما تناسب غلظة قوم هود وشدتهم . وصلابة أجسامم وبنيتهم ، وجفاف حسهم ومشاعرهم . . فكأنه - عليه السلام - يقول لهم : إنكم مهما بلغتم من القوة والبطش ، فما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التى يأخذ ربى بناصيتها ، ويقهرها بقوته قهراً يهلكها - إذا شاء ذلك - فكيف أخشى دوابا مثلكم مع توكلى على الله ربى وربكم ؟ !
ثم يتبع هذا الوصف الدال على شمول قدرة الله - تعالى - بوصف آخر يدل على عدالته وتنزه عن الظلم فيقول : { إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
أى : إن ربى قد اقتضت سنته أن يسلك فى أحكامه طريق الحق والعدل وما دام الأمر كذلك فلن يسلطكم على لأنه - حاشاه - أن يسلط من كان متمسكا بالباطل ، على من كان متمسكا بالحق .
واكتفى هنا باإضافة الرب إلى نفسه ، للإشارة إلى أن لطفه - سبحانه - يشمل هودا وحده ولا يشملهم ، لأنهم أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى .
( إني توكلت على الله ربي وربكم ) . .
ومهما أنكرتم وكذبتم . فهذه الحقيقة قائمة . حقيقة ربوبية الله لي ولكم . فالله الواحد هو ربي وربكم ، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة . .
( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) . .
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض ، بما فيها الدواب من الناس . والناصية أعلى الجبهة . فهو القهر والغلبة والهيمنة ، في صورة حسية تناسب الموقف ، وتناسب غلظة القوم وشدتهم ، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم ، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم . . وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد :
فهي القوة والاستقامة والتصميم .
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي . . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود - عليه السلام - في نفسه من ربه . . إنه يجد هذه الحقيقة واضحة . . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) . . وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا . فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها ؛ وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ؟ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه ؟
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه ، لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره ، ولا مجالا للتردد عن المضي في طريقه .
إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا .
وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله ، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة ، يأخذ هود في الإنذار والوعيد :
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُمْ مّا مِن دَآبّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنّ رَبّي عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
يقول : إني على الله الذي هو مالكي ومالككم والقّم على جميع خلقه تَوَكّلْتُ من أن تصيبوني أنتم وغيركم من الخلق بسوء ، فإنه ليس من شيء يدبّ على الأرض إلا والله مالكه وهو في قبضته وسلطانه ذليل له خاضع .
فإن قال قائل : وكيف قيل : هو آخذ بناصيتها ، فخصّ بالأخذ الناصية دون سائر أماكن الجسد ؟ قيل : لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع ، فتقول : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه له مطيع يصرفه كيف شاء وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزّوا ناصيته ليعتدوا بذلك عليه فخرا عند المفاخرة . فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم ، والمعنى ما ذكرت .
وقوله : إنّ رَبّي على صِرَاط مُسْتَقِيمٍ يقول : إن ربي على طريق الحق ، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّ رَبّي على صِرَاط مُسْتَقِيمٍ الحق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله تعالى : { إني توكلت على الله } الآية ، المعنى : أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم ؛ ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } وعبر عن ذلك ب «الناصية » ، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه ، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه لتكون تلك علامة أنه قدر عليه وقبض على ناصيته . و «الدابة » : جميع الحيوان ، وخص بالذكر إذ هو صنف المخاطبين والمتكلم .
وقوله : { إن ربي على صراط مستقيم } يريد أن أفعال الله عز وجل هي في غاية الإحكام ، وقوله الصدق ، ووعده الحق ؛ فجاءت الاستقامة في كل ما ينضاف إليه عز وجل . فعبر عن ذلك بقوله : { إن ربي على صراط مستقيم } على تقدير مضاف .
جملة { إنّي توكلت } تعليل لمضمون { فكيدوني } وهو التعجيز والاحتقار . يعني : أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله ، فهذا معنى ديني قديم .
وأُجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالاً على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه ، لأنه مالكهم جميعاً يدفع ظلم بعضهم بعضاً .
وجملة { ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها } في محل صفة لاسم الجلالة ، أو حال منه ، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية .
والناصية : ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس . والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكّن ، تشبيهاً بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتاً .
وإنما كان تمثيلاً لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم { ما من دابة } ، ولكنه لما صار مثلاً صار بمنزلة : ما من دابة إلا هو متصرف فيها . ومن بديع هذا المثل أنّه أشدّ اختصاصاً بالنوع المقصود من بين عموم الدّواب ، وهو نوع الإنسان . والمقصود من ذلك أنّه المالك القاهر لجميع ما يدبّ على الأرض ، فكونه مالكاً للكلّ يقتضي أن لا يفوته أحد منهم ، وكونه قاهراً لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم .
وجملة { إن ربّي على صراط مستقيم } تعليل لجملة { إنّي توكّلت على الله } ، أي توكّلت عليه لأنّه أهل لتوكلي عليه ، لأنّه متّصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله .
و { على } للاستعلاء المجازي ، مثل { أولئك على هدىً من ربهم } [ البقرة : 5 ] مستعارة للتمكّن المعنوي ، وهو الاتّصاف الراسخ الذي لا يتغير .
والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأنّ العدل يشبّه بالاستقامة والسواء . قال تعالى : { فاتبعني أهدك صراطاً سويّاً } [ مريم : 43 ] . فلا جرم لا يُسْلم المتوكّل عليه للظّالمين .