روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (56)

وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله { إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ } وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعاً وبذلتم في مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته ، وجىء بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام ، ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله : { مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه ، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها ، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية ، وفي «البحر » أنه صار عرفاً في القدرة على الحيوان ، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته ، وقوله : { إِنَّ رَبّى على * صراط مُّسْتَقِيمٍ } مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها ، وهو كقوله سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] ، وقيل : معناه إن مصيركم إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء ، ولعل الأول أولى ، وفي «الكشف » إن في قوله : { إِنّى تَوَكَّلْتُ } الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل ، وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله : { رَبّى وَرَبَّكُمْ } فكيف يصاف من لزم سدّة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيخه بقوله : { مَّا مِن دَابَّةٍ } إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى ، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أياً مّا كان ، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناءاً على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم ، وفي قوله : { رَبّى } من غير إعادة { وَرَبّكُمْ } كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقاً وربه دونهم تشريفاً وإرفاقاً .

( هذا ومن باب الإشارة ) : في الآيات : قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام : { مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحداً على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا اعوجاج فيه ، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه : إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه ، نعم إن الناس على قسمين : أهل الكشف .

وأهل الحجاب ، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك ، والآخرون يمشرون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطاً مستقيماً وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطاً مستقيماً ، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء ، وهي الرحمة السابقة على الغضب ، وادعى أن فيها بشارة للخلق أي بشارة .

وقال القيصري في تفسيرها : أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي ، فالمعنى ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم ؛ وأشار بقوله سبحانه : { أَخَذَ } إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها ، وإنما قال : { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } بإضافة الرب إلى نفسه ، وتنكير الصراط تنبيهاً على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الآلهية ، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] بلام العهد . أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها ، فلا يقال : إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما فائدة الدعوة ؟ لأنا نقول : الدعوة إلى الهادي من المضل . وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } [ مريم : 85 ] انتهى بحروفه ، وأعظم من هذا إشكالاً التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة ، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض ، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه ، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق ، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم .

وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلاً لتمايزهما ذهنا ، ولا ينافي ذلك قول الأشعري : وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية ، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته ، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية ، وبعبارة أخرى : إن حقيقة الممكن أمر معدوم .

وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التلكيف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة .

وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه ، وكون الحق سبحانه قيوماً للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص { مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } [ الكهف : 39 ] وما هو بالله فهو لله تعالى ، والبحث في ذلك طويل ، وبعض كلماتهم يتراءى منها عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل :

لقد كنت دهراً قبل أن يكشف الغطا *** إخالك أني ذاكر لك شاكر

فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا *** بأنك مذكور وذكر وذاكر

لكن ينبغي أن لا يبادر سمعها بالإنكار ، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار ، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام ، وفيما قص الله تعالى ههنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة ، فقد قالوا : إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ؛ ثم يثني بالكرامة بالطعام ، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب ، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه ، ولله در من قال :

لعلك غضبان ولست بعالم *** سلام على الدارين إن كنت راضياً

وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى ، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر ، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل .