{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } أي : كل ما تعلقت به مشيئتهم ، فهو حاصل فيها ولهم فوق ذلك { مَزِيدٌ } أي : ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وأعظم ذلك ، وأجله ، وأفضله ، النظر إلى وجه الله الكريم ، والتمتع بسماع كلامه ، والتنعم بقربه ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم .
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } اى : لهؤلاء المتقين ما يشاءون ويشتهون . . فى الجنة .
{ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أى : وعدنا - فضلا عن كل هذا النعيم الذى يرفلون فيه - المزيد منه ، مما لم يخطر لهم على بال ، ولم تره أعينهم قبل ذلك .
قال ابن كثير : وقوله : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله - تعالى - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } وقد تقدم فى صحيح مسلم عن صهيب بن سنان ، أنها النظر إلى وجه الله الكريم .
وقوله : لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها يقول : لهؤلاء المتقين ما يريدون في هذه الجنة التي أُزلفت لهم من كل ما تشتهيه نفوسهم ، وتلذّه عيونهم .
وقوله : وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يقول : وعندنا لهم على ما أعطيناهم من هذه الكرامة التي وصف جلّ ثناؤه صفتها مزيد يزيدهم إياه . وقيل : إن ذلك المزيد : النظر إلى الله جلّ ثناؤه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن سُهيل الواسطي ، قال : حدثنا قُرةُ بن عيسى ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ جده ، عن أنس ، إن الله عزّ وجلّ إذا أسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، هبط إلى مَرْج من الجنة أفيح ، فمدّ بينه وبين خلقه حُجُبا من لؤلؤ ، وحُجُبا من نور ثم وُضعت منابر النور وسُرُرُ النور وكراسيّ النور ، ثم أُذِن لرجل على الله عزّ وجلّ بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمَع دَويّ تسبيح الملائكة معه ، وصَفْق أجنحتهم فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذِن له على الله ؟ فقيل : هذا المجعول بيده ، والمُعَلّم الأسماء ، والذي أُمرت الملائكة فسجدت له ، والذي له أبيحت الجنة ، آدم عليه السلام ، قد أُذِن له على الله تعالى قال : يؤذَن لرجل آخر بين يديه أمثال الجبال من النور ، يُسْمع دَوِيّ تسبيح الملائكة معه ، وصَفُق أجنحتهم فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذِن له على الله ؟ فقيل : هذا الذي اتخذه الله خليلاً ، وجعل عليه النار بَرْدا وسلاما ، إبراهيم قد أُذِن له على الله . قال : ثم أُذِن لرجل آخر على الله ، بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمَع دَوِيّ تسبيح الملائكة معه ، وصَفْق أجنحتهم فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذن له على الله ؟ فقيل : هذا الذي اصطفاه الله برسالته وقرّبه نجيا ، وكلّمه ( كلاما ) موسى عليه السلام ، قد أُذِن له على الله . قال : ثم يُؤذن لرجل آخر معه مثلُ جميع مواكب النبيين قبله ، بين يديه أمثال الجبال ، ( من النور ) يسمع دَوِيّ تسبيح الملائكة معه ، وصَفْق أجنحتهم فمدّ أهل الجنة أعناقهم ، فقيل : من هذا الذي قد أُذِن له على الله ؟ فقيل : هذا أوّل شافع ، وأوّل مشفّع ، وأكثر الناس واردة ، وسيد ولد آدم وأوّل من تنشقّ عن ذُؤابتيه الأرض ، وصاحب لواء الحمد ، أحمد صلى الله عليه وسلم ، قد أُذِن له على الله . قال : فجلس النبيون على منابر النور ، ( والصدّيقون على سُرُر النور والشهداء على كراسيّ النور ) وجلس سائر الناس على كُثْبان المسك الأذفر الأبيض ، ثم ناداهم الربّ تعالى من وارء الحُجب : مَرْحَبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي . يا ملائكتي ، انهضوا إلى عبادي ، فأطعموهم . قال : فقرّبت إليهم من لحوم طير ، كأنها البُخت لا ريش لها ولا عظم ، فأكلوا ، قال : ثم ناداهم الربّ من وراء الحجاب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا اسقوهم . قال : فنهض إليهم غلمان كأنهم اللؤلؤ المكنون بأباريق الذهب والفضة بأشربة مختلفة لذيذة ، لذة آخرها كلذّة أوّلها ، لا يُصَدّعون عنها ولا يُنْزَفون ثم ناداهم الربّ من وراء الحُجب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا وشربوا ، فَكّهوهم . قال : فيقرّب إليهم على أطباق مكلّلة بالياقوت والمرجان ومن الرّطَب الذي سَمّى الله ، أشدّ بياضا من اللبن ، وأطيب عذوبة من العسل . قال : فأكلوا ثم ناداهم الربّ من وراء الحُجُب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا وشربوا ، وفُكّهوا اكسوهم قال ففتحت لهم ثمار الجنة بحلل مصقولة بنور الرحمن فأُلبسوها . قال : ثم ناداهم الربّ تبارك وتعالى من وراء الحجب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي أكلوا وشربوا وفُكّهوا وكُسُوا طَيّبوهم . قال : فهاجت عليهم ريح يقال لها المُثِيرة ، بأباريق المسك ( الأبيض ) الأذفر ، فنفحت على وجوههم من غير غُبار ولا قَتام . قال : ثم ناداهم الربّ عزّ وجلّ من وراء الحُجب : مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي ، أكلوا وشربوا وفكهوا ، وكسوا وطُيّبوا ، وعزّتي لأتجلينّ لهم حتى ينظروا إليّ قال : فذلك انتهاء العطاء وفضل المزيد قال : فتجلى لهم الربّ عزّ وجلّ ، ثم قال : السلام عليكم عبادي ، انظروا إليّ فقد رضيت عنكم . قال : فتداعت قصور الجنة وشجرها ، سبحانك أربع مرّات ، وخرّ القوم سجدا قال : فناداهم الربّ تبارك وتعالى : عبادي ارفعوا رؤوسكم فإنها ليست بدار عمل ، ولا دار نَصَب إنما هي دار جزاء وثواب ، وعزّتي وجلالي ما خلقتها إلا من أجلكم ، وما من ساعة ذكرتموني فيها في دار الدنيا ، إلا ذكرتكم فوق عرشي .
حدثنا عليّ بن الحسين بن أبجر ، قال : حدثنا عمر بن يونس اليمامي ، قال : حدثنا جهضم بن عبد الله بن أبي الطفيل قال : ثني أبو طيبة ، عن معاوية العبسيّ ، عن عثمان بن عمير ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ وفِي كَفّهِ مِرْآةٌ بَيْضَاءُ ، فِيها نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ : يا جِبْرِيلُ ما هَذِهِ ؟ قالَ : هَذِهِ الجُمُعَةُ ، قُلْتُ : فَمَا هَذِهِ النّكْتَةُ السّوْدَاءُ فِيها ؟ قالَ : هِيَ السّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهُوَ سَيّدُ الأَيّامِ عِنْدَنا ، ونَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الاَخِرَةِ يَوْمَ المَزِيدِ قُلْتُ : وَلِمَ تَدْعُونَ يَوْمَ المَزِيدِ قالَ : إنّ رَبّكَ تَبارَكَ وَتَعالى اتّخَذَ فِي الجَنّةِ وَادِيا أفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أبْيَضَ ، فإذَا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ نَزَلَ مِنْ عِلّيّينَ على كُرْسِيّهِ ، ثُمّ حَفّ الكُرْسِيّ بِمَنابِرَ مِنْ نُورٍ ، ثُمّ جاءَ النّبِيّونَ حتى يَجْلِسُوا عَلَيْها ثُمّ تَجِيءُ أهْلُ الجَنّةِ حتى يَجْلِسُوا على الكُثُبِ فَيَتَجَلّى لَهُمْ رَبّهُمْ عَزّ وَجَلّ حتى يَنْظُرُوا إلى وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ : أنا الّذِي صَدَقْتُكُمْ عِدَتِي ، وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، فَهَذَا مَحلّ كَرَامَتِي ، فَسَلُونِي ، فَيَسأَلُونَهُ الرّضَا ، فَيَقُولُ : رضَايَ أحَلّكُمْ دَارِي وأنا لَكُم كَرَامَتِي ، سَلُونِي ، فَيَسألُونَهُ حتى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذلكَ ما لا عين رأَتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ ، إلى مِقْدَارِ مُنْصَرَفِ النّاسِ مِنَ الجُمُعُة حتى يَصْعَدَ على كُرْسِيّهِ فَيَصْعَدُ مَعَهُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ ، وَتَرْجِعُ أهْلُ الجَنّةِ إلى غُرَفِهِمْ دُرّةً بَيْضَاءَ ، لا نَظْمَ فِيها وَلا فَصْمَ ، أوْ ياقُوتَةً حَمْرَاءَ ، أوْ زَبَرْجَدَةً خَضْرَاءَ ، مِنْها غُرَفْها وأبْوَابُها ، فَلَيْسُوا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنْهُمْ إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ ، لِيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً ، وَلِيَزْدَادُوا نَظَرا إلى وَجْهِهِ ، وَلِذَلكَ دُعِيَ يَوْمَ المَزِيدِ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عثمان بن عمير ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث عليّ بن الحسين .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن صالح بن حيان عن أبي بُرَيدة ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد ، قال : حدثنا ، أو قال : قالوا : إن أدنى أهل الجنة منزلة ، الذي يقال له تمنّ ، ويذكّره أصحابه فيتمنى ، ويذكره أصحابه فيقال له ذلك ومثله معه . قال : قال ابن عمر : ذلك لك وعشرة أمثاله ، وعند الله مزيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجا أبا السّمْح ، حدثه عن أبي الهَيثم ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، أنه قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الرّجُلَ فِي الجَنّةِ لَيَتّكِيءُ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أنْ يَتَحَوّلَ ثُمّ تَأْتِيهِ امْرأتُهُ فَتَضْربُ على مَنْكِبَيْهِ ، فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدّها أصْفَى مِنْ المِرْآةِ ، وإنّ أدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِب ، فَتُسَلّمُ عَلَيْهِ ، فَيرُدّ السّلامَ ، وَيَسألُها مَنْ أنْتِ ؟ فَتَقُولُ : أنا مِنَ المَزِيدِ وَإنّهُ لَيَكُونَ عَلَيْها سَبْعُونَ ثَوْبا أدْناها مِثْلُ النّعْمانِ مِنْ طُوبى فَيَنْفُذُها بَصَرُهُ حتى يَرَى مُخّ ساقِها مِنْ وَرَاءِ ذلكَ ، وَإنّ عَلَيْها مِنَ التّيجانِ ، وَإنّ أدْنَى لُؤلُؤَةٍ فِيها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ » .
وقوله تعالى : { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع . ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين ، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }{[10558]} [ السجدة : 17 ] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما أطلعتهم عليه » . وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة ، لأن الله تعالى يقول : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } [ السجدة : 17 ] وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً . وروي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن المزيد : النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لهم ما يشاءون} من الخير {فيها} وذلك أن أهل الجنة يزورون ربهم على مقدار كل يوم جمعة في رمال المسك، فيقول: سلوني، فيسألونه الرضا؟ فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنا لكم كرامتي، ثم يقرب إليهم ما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم يقول: سلوني ما شئتم، فيسألون حتى تنتهي مسألتهم فيعطون على ما سألوا وفوق ذلك. فذلك قوله: {لهم ما يشاءون فيها}، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوا، ولم يتمنوا، ولم يخطر على قلب بشر من جنة عدن، فذلك قوله: {ولدينا مزيد} يعني وعندنا مزيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها "يقول: لهؤلاء المتقين ما يريدون في هذه الجنة التي أُزلفت لهم من كل ما تشتهيه نفوسهم، وتلذّه عيونهم.
وقوله: "وَلَدَيْنا مَزِيدٌ" يقول: وعندنا لهم على ما أعطيناهم من هذه الكرامة التي وصف جلّ ثناؤه صفتها مزيد يزيدهم إياه، وقيل: إن ذلك المزيد: النظر إلى الله جلّ ثناؤه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لهم ما يشاءون فيها} أي لهم ما يختارون فيها، لا يُجبرون، ولا يُكرهون فيها على شيء، إذ المشيئة، هي صفة كل فاعل مختار، وإن كانت المشيئة مشيئة التّمني والتّشهي، فكأنه قال: لهم ما يتمنّون، ويتخيّرون،.. والثاني: {ولدينا مزيد} من نعيمها ما لا يبلُغ تمنّيهم وشهواتهم كقوله عليه السلام في صفة نعيم الجنة: (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) [البخاري 3244] لأن الأماني والشهوات إنما تكون لما سبق لجنسه من الذي تقع عليه الرؤية والنظر أو الخير، فأما ما لا معرفة له فلا يُتمنّى، ولا يُشتهى، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يقل: "لهم ما يسألون " بل قال: {لَهُمُ مَّا يَشَاءونَ}: فكلُّ ما يخطر ببالهم فإنَّ سؤلَهم يتحقق لهم في الوَهْلة، وإذا كانوا اليوم يقولون: ما يشاء الله فإنَّ لهم غداً منه الإحسان... وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}: اتفق أهل التفسير على أنه الرؤية، والنظر إلى الله سبحانه وقومٌ يقولون: المزيد على الثواب في الجنة -ولا منافاة بينهما...
قوله تعالى: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.
وفي الآية ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأنه تعالى بدأ ببيان إكرامهم حيث قال: {وأزلفت الجنة للمتقين} ولم يقل: قرب المتقون من الجنة بيانا للإكرام حيث جعلهم ممن تنقل إليهم الجنان بما فيها من الحسان، ثم قال لهم هذا لكم، بقوله: {هذا ما توعدون} ثم بين أنه أجر أعمالهم الصالحة بقوله: {لكل أواب حفيظ} وقوله {من خشي الرحمن} فإن تصرف المالك الذي ملك شيئا بعوض أتم فيه من تصرف من ملك بغير عوض، لإمكان الرجوع في التمليك بغير عوض، ثم زاد في الإكرام بقوله: {ادخلوها} كما بينا أن ذلك إكرام، لأن من فتح بابه للناس، ولم يقف ببابه من يرحب الداخلين، لا يكون قد أتى بالإكرام التام، ثم قال: {ذلك يوم الخلود} أي لا تخافوا ما لحقكم من قبل حيث أخرج أبويكم منها، فهذا دخول لا خروج بعده منها.
ثم لما بين أنهم {فيها خالدون} قال: لا تخافوا انقطاع أرزاقكم وبقاءكم في حاجة، كما كنتم في الدنيا من كان يعمر ينكس ويحتاج، بل لكم الخلود، ولا ينفد ما تمتعون به فلكم ما تشاءون في أي وقت تشاءون، وإلى الله المنتهى، وعند الوصول إليه، والمثول بين يديه، فلا يوصف ما لديه، ولا يطلع أحد عليه، وعظمة من عنده تدلك على فضيلة ما عنده، هذا هو الترتيب، وأما التفسير، ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال تعالى: {ادخلوها بسلام} على سبيل المخاطبة.
ثم قال: {لهم} ولم يقل لكم ما الحكمة فيه؟ الجواب عنه من وجوه:
(الأول) هو أن قوله تعالى: {ادخلوها} مقدر فيه يقال لهم، أي يقال لهم {ادخلوها} فلا يكون على هذا التفاتا.
(الثاني) هو أنه من باب الالتفات والحكمة الجمع بين الطرفين، كأنه تعالى يقول: أكرمهم به في حضورهم، ففي حضورهم الحبور، وفي غيبتهم الحور والقصور.
(والثالث) هو أن يقال قوله تعالى: {لهم} جاز أن يكون كلاما مع الملائكة، يقول للملائكة: توكلوا بخدمتهم، واعلموا أن لهم ما يشاءون فيها، فأحضروا بين أيديهم ما يشاءون، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم، ولا تقدرون أنتم عليه.
المسألة الثانية: قد ذكرنا أن لفظ {مزيد} يحتمل أن يكون معناه الزيادة، فيكون كما في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول، أي عندنا ما نزيده على ما يرجون وما يكون مما يشتهون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لهم ما يشاؤون فيها، ولدينا مزيد).. فمهما اقترحوا فهم لا يبلغون ما أعد لهم. فالمزيد من ربهم غير محدود..