ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الأوقات على جميع الأحوال فقال : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } أي : طاعته وطريق مرضاته ، لا في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم { بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم } أي : أجر عظيم من خير عند الرب الرحيم { ولا خوف عليهم } إذا خاف المقصرون { ولا هم يحزنون } إذا حزن المفرطون ، ففازوا بحصول المقصود المطلوب ، ونجوا من الشرور والمرهوب ، ولما كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الإساءة فقال :
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن النفقة والمنفقين بقوله : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وقوله : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } استئناف المقصود منه مدح أولئك الذين يعممون صدقاتهم في كل الأزمان وفي كل الأحوال فهم يتصدقون على المحتاجين في الليل وفي النهار ، في الغدو وفي الآصال ، في السر وفي العلن ، في كل وقت وفي كل حال ، لأنهم لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم يحرصون كل الحرص على كل ما يرضى الله تعالى .
وقال بين الله - تعالى - في ثلاث جمل حسن عاقبتهم ، وعظيم ثوابهم فقال في الجملة الأولى { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي فلهم أجرهم الجزيل عند خالقهم ومربيهم ورازقهم .
والجملة الكريمة خبر لقوله : { الذين يُنْفِقُونَ . . . } ودخلت الفاء في الخبر لأن الموصول في معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره جوازاً ، وللدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها أي أن استحقاق الأجر متسبب عن الإِنفاق في سبيل الله .
وقال في الجملة الثانية : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : لا خوف عليهم من أي عذاب لأنهم في مأمن من عذاب الله بسبب ما قدموا من عمل صالح .
وقال في الجملة الثالثة : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي لا يصيبهم ما يؤدي بهم إلى الحزن والهم والغم ، لأنهم دائماً في اطمئنان يدفع عنهم الهموم والأحزان وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها " أن علي بن أبي طالب كان يملك أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على ذلك ؟ فقال أريد أن أكون أهلا لما وعدني ربي . فقال صلى الله عليه وسلم : لك ذلك " " فأنزل الله هذه الآية .
والحق أن هذه الرواية وغيرها لا تمنع عمومها ، فهي تنطبق على كل من بذل ماله في سبيل الله في عموم الأوقات والأحوال .
أما بعد : فهذه أربع عشرة آية بدأت من قوله - تعالى - { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ . . . }
وانتهت بقوله - تعالى - : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ . . . } .
والذي يقرأ هذه الآيات الكريمة بتدبر وتعقل يراها قد حضت الناس على الإِنفاق في سبيل الله بأبلغ الأساليب ، وأحكم التوجيهات ، وأفضل الوسائل ، كما يراها بينت أحكام الصدقة وآدابها ، والآفات التي تذهب بخيرها وضربت الأمثال لذلك ، كما يراها قد بينت أنواعها ، وطريقة أدائها ، وأولى الناس بها ورسمت صورة كريمة للفقراء المتعففين ، وكما بدأت الآيات حديثها بالثناء الجميل على المنفقين فقد ختمته أيضاً بالثناء عليهم وبالعاقبة الحسنى التي أعدها الله لهم .
ولو أن المسلمين أخذوا بتوجيهات هذه الآيات لعمتهم السعادة في دنياهم ، ولنالوا رضا الله ومثوبته في أخراهم .
وبعد هذه الصورة المشرقة التي ساقها القرآن عن النفقة والمنفقين أتبعها بصورة مضادة لها وهي صورة الربا والمرابين . ومن مظاهر التضاد والتباين بين الصورتين أن الصدقة بذل للمال في وجوه الخير بدون عوض ينتظره المتصدق ، أما الربا فهو إخراج المال في وجوه الاستغلال لحاجة المحتاج مع ضمان استرداده ومعه زيادة محرمة . وأن الصدقة نتيجتها الرخاء والنماء والطهارة للمال ، وشيوع روح المحبة والتعامل والتكامل والاطمئنان بين أفراد المجتمع ، أما الربا فنتيجته محق البركة من المال ، وشيوع روح التقاطع والتحاسد والتباغض والخوف بين الناس .
{ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا معتمر ، عن أيمن بن نابل ، قال : حدثني شيخ من غافق : أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن ، فيقول : أهل هذه يعني الخيل من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وقال آخرون : عنى بذلك قوما أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ } إلى قوله : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } هؤلاء أهل الجنة¹ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «المُكْثِرُونَ هم الأسْفَلُونَ » . قالوا : يا نبيّ الله إلاّ مَنْ ؟ قال : «المُكْثِرُونَ هُمْ الأسْفَلُونَ » ، قالوا : يا نبيّ الله إلا مَن ؟ حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها ردّ ، حتى قال : «إِلاّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا » عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ ، «وَهَكَذَا » بين يَدَيْهِ «وَهَكَذَا » خَلْفَهُ ، «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، هَولاءِ قَوْمٌ أنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ وَارْتَضَى فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلا إِمْلاقٍ وَلا تَبْذِيرٍ وَلاَ فَسَادٍ » .
وقد قيل : إن هذه الاَيات من قوله : { إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ } إلى قوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } كان مما يعمل به قبل نزول ما في سورة براءة من تفصيل الزكوات ، فلما نزلت براءة قصروا عليها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ } إلى قوله : { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } فكان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة ، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها .
{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } أي يعمون الأوقات والأحوال بالخير . نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية . وقيل في أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه : لم يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا ودرهم نهارا ، ودرهم سرا ودرهم علانية . وقيل : في ربط الخيل في سبيل الله والإنفاق عليها . { فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } خبر الذين ينفقون ، والفاء للسببية . وقيل للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين ولذلك جوز الوقف على وعلانية .
جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خُصّص الكلام بالإنفاق للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ، فاسم الموصول مبتدأ ، وجملة { فلهم أجرهم } خبر المبتدأ .
وأَدخل الفاء في خبر الموصول للتنبيه على تسبّب استحقاق الأجر على الإنفاق لأنّ المبتدأ لما كان مشتملاً على صلة مقصود منها التعميم ، والتعليل ، والإيماء إلى علّة بناء الخبر على المبتدأ وهي ينفقون صَحّ إدخال الفاء في خبره كما تدخل في جواب الشرط ؛ لأنّ أصل الفاء الدلالة على التسبّب وما أدخلت في جواب الشرط إلاّ لذلك . والسرّ : الخفاء . والعلانية : الجهر والظهور . وذكر عند ربّهم لتعظيم شأن الأجر .
وقوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } مقابل قوله : { وما للظالمين من أنصار } [ البقرة : 270 ] إذ هو تهديد لمانعِي الصدقات بإسلام الناس إياهم عند حلول المصائب بهم ، وهذا بشارة للمنفقين بطيب العيش في الدنيا فلا يخافون اعتداء المعتدين لأنّ الله أكسبهم محبة الناس إياهم ، ولا تحلّ بهم المصائب المحزنة إلاّ ما لا يسلم منه أحد ممّا هو معتاد في إبانه .
أما انتفاء الخوف والحزن عنهم في الآخرة فقد علم من قوله : { فلهم أجرهم عند ربهم } .
ورُفع خوف في نفي الجنس إذ لا يتوهم نفي الفرد لأنّ الخوف من المعاني التي هي أجناس محضة لا أفراد لها كما تقدّم في قوله تعالى : { لا بيع فيه ولا خلة } [ البقرة : 254 ] ، ومنه ما في حديث أم زرع : « لا حَرٌ ولا قرٌ ولا مَخَافَةٌ ولا سَآمَةٌ » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... إن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطة بين البراذين والهجن، فيقول: أهل هذه يعني الخيل من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال آخرون: عنى بذلك قوما أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير.
حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ} إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} هؤلاء أهل الجنة¹ ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «المُكْثِرُونَ هم الأسْفَلُونَ». قالوا: يا نبيّ الله إلاّ مَنْ؟ قال: «المُكْثِرُونَ هُمْ الأسْفَلُونَ»، قالوا: يا نبيّ الله إلا مَن؟ حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها ردّ، حتى قال: «إِلاّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا» عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ، «وَهَكَذَا» بين يَدَيْهِ «وَهَكَذَا» خَلْفَهُ، «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، هَولاءِ قَوْمٌ أنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ وَارْتَضَى فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلا إِمْلاقٍ وَلا تَبْذِيرٍ وَلاَ فَسَادٍ».
وقد قيل: إن هذه الآيات من قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ} إلى قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كان مما يعمل به قبل نزول ما في سورة براءة من تفصيل الزكوات، فلما نزلت براءة قصروا عليها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: هي النفقة على الخيل المحتسبة للجهاد؛ ينفقون ليلا ونهارا سرا وعلانية لا رياء فيها، ولا إضمار... وفيه نفي الرياء عن نفقتهم، لأن من عود نفسه الفعل في جميع الأوقات لم يراء. وقوله تعالى: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} لأن نعيم الدنيا مشوب بالحزن والخوف، لذلك كان ما ذكرنا، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... الآية وإن كانت نزلت في علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولاً محكماً، وكذلك المنفق في الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان المؤمنون يعملون بهذه الآية من قوله: {إن تبدوا الصدقات} [البقرة: 271] إلى قوله: {ولا هم يحزنون} [البقرة: 274] فلما نزلت براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها...
الأول: لما بين في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بين في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو، فقال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم}.
والثاني: أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} [البقرة: 271]
والثالث: أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق، فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات...
ثم قال في خاتمة الآية {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} والمعنى معلوم وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة، ويتأكد ذلك بقوله تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103].
المسألة الثانية: أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر... وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق.
الحكم الثاني: من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولم يبين في هذه الآية أفضلية الصدقة في أحد الزمانين، ولا في إحدى الحالتين اعتماداً على الآية قبلها، وهي: {إن تبدوا الصدقات} أو جاء تفصيلاً على حسب الواقع من صدقة أبي بكر، وصدقة علي، وقد يقال: إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية يدل على تلك الأفضلية، والليل مظنة صدقة السر، فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل، والحال التي كانت فيها أفضل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حض على النفقة فأكثر وضرب فيها الأمثال وأطنب في المقال ولم يعين لها وقتاً كان كأن سائلاً قال: في أي وقت تفعل؟ فبين في آية جامعة لأصناف الأموال والأزمان والأحوال أنها حسنة في كل وقت وعلى كل حال فقال: {الذين ينفقون أموالهم} أي في الوجوه الصالحة التي تقدم التنبيه عليها وقدم من المتقابلين ما كان أقرب إلى الإخلاص اهتماماً به دلالة على فضله فقال: {بالليل} إن اقتضى ذلك الحال {والنهار} إن دعتهم إلى ذلك خطة رشد {سراً وعلانية} كذلك...
ولما كان الانتهاء عن المن والأذى في بعض الأحوال أشد ما يكون على النفس لما يرى من المنفق عليه من الغض ونحو ذلك فلا يكاد يسلم منه أحد. ابتدأ الجزاء في آيته من غير ربط بالفاء إشارة إلى العفو عما يغلب النفس منه تنزيلاً له منزلة العدم، وإيماء إلى تعظيمه بكونه ابتداء عطية من الملك، ترغيباً في الكف عنه، لأنه منظور إليه في الجملة، وربط الجزاء في هذه إعلاماً بأنه مسبب عن هذه الأحوال، لأن الأفعال أيسر من التروك فحصوله متوقف على حصولها، حثاً على الإتيان بها كلها للسهولة في ذلك، لأن من سمح بالإنفاق لله سبحانه وتعالى استوت عنده فيه الأوقات فقال:
{فلهم أجرهم} وسببيته كونه علامة لحصول الأجر، لا أنه سبب حقيقي، إنما السبب الحقيقي رحمة الله بالتوفيق للعمل والاعتداد به، وأعلم بأنه محفوظ مضاعف مربي لا يضيع أصلاً بقوله: {عند ربهم} أي فهو يربي نفقاتهم ويزكيها كما رباهم.
ثم ختم آي النفقات بما بدأها به من الأمن والسرور فقال: {ولا خوف عليهم} كما فرحوا بها عن غيرهم {ولا هم يحزنون} لأنه لا ثواب أعظم من ذلك، إذ لا عيشة لحزين ولا خائف؛ ولشدة مشاق الإنفاق على الأنفس لا سيما في أول الإسلام لما كانوا فيه من الضيق أكد تعالى فيه هذا التأكيد بجملته وبينه هذا البيان الواضح حتى لم يبق فيه خفية وجه إلا أظهرها وحذر منها وقررها -أشار إلى ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي فقال: فأفضلهم المنفق ليلاً سراً. وأنزلهم المنفق نهاراً علانية؛ فهم بذلك أربعة أصناف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
كل ما تقدم في الآيات من الإنفاق كان في الترغيب فيه وبيان فوائده في أنفس المنفقين وفي المنفق عليهم وفي الأمة التي يكفل أقوياؤها ضعفاءها وأغنياؤها فقراءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة، وفي آداب النفقة، وفي المستحق لها وأحق الناس بها، ونحو ذلك من الأحوال، إلا ما يتعلق بالزمان، فقد ذكره الله تعالى في قوله: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} وفيه بيان عموم الأوقات مع عموم الأحوال من الإظهار والإخفاء، وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بتفضيل صدقة السر. ولكن الجمع بين السر والعلانية يقتضي أن لكل منها موضعا تقتضيه الحال وتفضله المصلحة لا يحل غيره محله...
وهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال لا يقبضون أيديهم مهما لاح لهم طريق للإنفاق هم الذين بلغوا نهاية الكمال في الجود والسخاء وطلب مرضاة الله تعالى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأخيرا يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق، وكل أوقات الإنفاق؛ وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار، سرا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.. ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها، سواء في صدر الآية أم في ختامها. وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير.. {الذين ينفقون أموالهم}.. هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال.. {بالليل والنهار. سرا وعلانية}.. لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات.. {فلهم أجرهم عند ربهم}.. هكذا إطلاقا. من مضاعفة المال. وبركة العمر. وجزاء الآخرة. ورضوان الله...
لا خوف من أي مخوف، ولا حزن من أي محزن.. في الدنيا وفي الآخرة سواء.. إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الآية عامة تشمل كل من يسارع إلى الإنفاق في وقت الحاجة إليه في سر أو في إعلان، في ليل أو في نهار، غير قاصد بما أنفق إلا الخير يبتغيه، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، لا يرائي ولا يمنّ ولا يؤذي، ولقد ذكر العلماء أن الآية مع عمومها وجدت روايات في سبب نزولها. و هذه الروايات كلها لا تمنع عمومها، وإنها تبين فضل المنفق المخلص الذي يعم إنفاقه، ويجيء في وقت الحاجة إليه، و" الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ماذا نستوحي من هذه الآيات؟... إننا نلاحظ فيها إلحاحاً كبيراً على قيمة الإنفاق في الإسلام في حدوده الإنسانية التي تثير في داخل الذات مشاعر الخير في علاقتها بالآخرين، بحيث تحفظ لهم حقوقهم في العيش الكريم الذي يلتقون فيه بحاجاتهم الأساسية في نطاق التعاون الإيماني، وتحافظ على كرامتهم في إبقاء إنسانيتهم حرّةً كريمة أمام ضغوط الحرمان والحاجة إلى الآخرين. ذلك هو خط الإسلام في الحياة، أن تعيش العطاء السمح من موقع إنسانيتك التي تحمل مسؤولية الحفاظ على إنسانية الآخرين. وبذلك يمكن للفكرة أن تتسع لكل طاقة تملكها، ولا يملك الآخرون مثلها، مما يجعلك موضع حاجة الآخرين إليك، سواء في ذلك طاقة المال والقوة والخبرة والعلم بجميع مجالاته، فإن عليك من قاعدة إسلامك، أن تقدمها إليهم في نطاق مشاعر الرحمة الإنسانية التي ترى في الطاقة المميزة نعمةً من الله عليك، ومسؤوليةً تحملها لمن يحتاج إليك، من دون أن تخلق عندك عقدة الفوقية التي تثير في نفسك الشعور بالاستعلاء، لأن القضية هي أنها ملك الله وهبته، كما أنك ملك الله وعطيّته، فلا فضل لك في أن تعطي ملك الله لعباده. وتلك هي قصة الطاقات الحية في المجتمع المسلم، في حركة العطاء السمح الذي تتحرك فيه المسؤولية والإنسانية والنعمة والإيمان في مسار واحد يلتقي فيه الإنسان بالله عندما يلتقي بالحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآية يدور الحديث أيضاً عن مسألة أخرى ممّا يرتبط بالإنفاق في سبيل الله وهي الكيفيّات المتنوّعة والمختلفة للإنفاق... ومن الواضح أنّ انتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية في إنفاقه اللّيلي أو النهاري العلني أو السرّي، فحين لا يكون ثمّة مبرّر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة المحتاجين وتركيزاً لإخلاص النيّة... وإذا تطلّبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينيّة والترغيب والحثّ على الإنفاق دون أن يؤدّي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين، فليعلن عنه كالإنفاق في الجهاد والمراكز الخيريّة وأمثال ذلك. ولا يبعد أن يكون تقديم اللّيل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلاّ أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كلّ حال. ومن المسلّم أنّ الشيء الذي يكون عند الله وخاصّة بالنظر إلى صفة الربوبيّة الناظرة إلى التكامل والنمو لا يكون شيئاً قليلاً وغير ذا قيمة، بل يكون متناسباً مع ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمّن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى الله تعالى...
ثمّ تضيف الآية {ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}. إنّ الإنسان يعلم أنّه لكي يدبّر اُموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال والثروة، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك، ويشتدّ به الخوف على مستقبله، لأنّه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام. هذه الحالة غالباً ما تمنع الإنسان من الإنفاق، إلاَّ الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة أخرى آثار الإنفاق الاجتماعية. فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق، لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة...