وبعد كل هذا التهديد والوعيد للكافرين . . يوجه - سبحانه - خطابه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم ، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هى العليا ، فيقول - سبحانه - : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } .
أى : { قُل } يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق بما جاءهم ، من أهل مكة وغيرهم ، قل لهم : { إِن يَنتَهُواْ } عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من كفرهم ومعاصيهم { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى قتالك ويستمروا في ضلالهم وكفرهم وطغيانهم ، انتقمنا منهم ، ونصرنا المؤمنين عليهم { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } على ذلك .
أى : فقد مضت سنة الله - تعالى - في الأولين ، وسنته لا تتخلف في أنه - سبحانه - يعذب المكذبين بعد إنذارهم وتبليغهم دعوته ، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم في الأرض . وقد رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم في بدر ، وكيف أهلك - سبحانه - الكافرين من الأمم قبلهم .
وجواب الشرط لقوله { وَإِنْ يَعُودُواْ } محذوف والتقدير : وإن يعودوا ننتقم منهم .
وقوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } تعليل للجواب المحذوف .
قال الآلوسى : قوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } أي عادة الله الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء ، من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم . وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة . ونظير ذلك قوله - سبحانه - { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله - سبحانه - { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } باعتبار جريانها على أيديهم . ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .
والآية حث على الإِيمان وترغيب فيه . . واستدل بها على أن الإِسلام يجب ما قبله ، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو وصوم أو إتلاف مال أو نفس . وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعلموم الآية . .
والمعنى : عليكم - أيها المؤمنون - إذا ما استمر أولئك الكافرون في كفرهم وعدوانهم ، أن تقاتلوهم بشدة وغلظة ، وأن تستمروا في قتالهم حتى تزول صولة الشرك ، وحتى تعيشوا أحرارا في مبشارة تعاليم دينكم ، دون أن يجرؤ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم . . حتى تصير كلمة الذين كفروا هى السفلى .
قال الجمل : وقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ } معطوف على قوله { قُل لِلَّذِينَ كفروا } . ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبى وحده جاء بالإفراد . ولما كان الغرض من الثانى تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا .
وقوله { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى : فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم ، فكفوا أيديكم عنهم ، فإن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أعمالهم ، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب .
وقوله { قل للذين كفروا } الآية ، أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنه ألفاظ قوله { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وسواء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبارة أو غيرها ، ولو كان الكلام كما ذكر الكسائي أنه في مصحف ابن مسعود «قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لكم » لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها ، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ ، وقوله { إن ينتهوا } يريد به عن الكفر ولا بد ، والحامل على ذلك جواب الشرط ب { يغفر بهم ما قد سلف } ، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنتهٍ عن الكفر ، وقوله { إن يعودوا } يريد به إلى القتال لأن لفظة عاد يعود إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان الإنسان عليها ثم تنقَّل عنها .
ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال ، ولا يصح أن يتأول { وإن يعودوا } إلى الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه وإنما قلنا في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر بمنزلة صار ، وذلك كما تقول عاد زيد ملكاً تريد صار ، ومنه قول أبي الصلت :
تلك المكارم لا قعبان من لبن*** شبيبا بماء فعادا بعد أبوالا{[5346]}
وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل ، لكنها مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونه ، فحكمها حكم صار ، وقوله { فقد مضت سنة الأولين } عبارة بجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله حين صد في وجه نبيه وبمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام والشرع ، والمعنى قد رأيتم وسمعتم عن الأمم ما حل .
قال القاضي أبو محمد : والتخويف عليهم بقصة بدر أشد إذ هي القريبة منهم والمعاينة عندهم ، وعليها نص ابن إسحاق والسدي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد {للذين كفروا إن ينتهوا} عن الشرك ويتوبوا، {يغفر لهم ما قد سلف} من شركهم قبل الإسلام {وإن يعودوا} لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتوبوا، {فقد مضت سنت الأولين} يعنى القتل ببدر، فحذرهم العقوبة لئلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم ببدر...
أخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس رضي الله عنه قال: لا يؤخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم، وذلك أن الله تعالى يقول: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}.
وما قد سلف تقضى وذهب، ودلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يطرح عنهم ما بينهم وبين الله عز ذكره والعباد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الإيمان يجب ما قبله». وقال الله تبارك وتعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبَا} ولم يأمرهم برد ما مضى منه. وقتل وحشي حمزة فأسلم، ولم يُقَدْ منه، ولم يتبع له بعقل، ولم يؤمر له بكفارة لطرح الإسلام ما فات من الشرك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قومك: إن ينتهوا عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله وقتالك وقتال المؤمنين فينيبوا إلى الإيمان، يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم. "وإنْ يَعُودُوا "يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر، فقد مضت سنتي في الأوّلين منهم ببدر ومن غيرهم من القرون الخالية إذ طغوا وكذّبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم من إحلال عاجل النقم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك مثل الذين أحللت بهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ذكر عز وجل غاية كرمه وجوده بما وعد لهم من المغفرة والتجاوز عما كان منهم من الإشراك في ألوهيته وصرف العبادة إلى غيره وصد الناس عن عبادته وطاعته ونصب الحروب التي نصبوا بينهم وبين المؤمنين وغير ذلك من أنواع الهلاك. فمع ما كان منهم وعد لهم المغفرة بالانتهاء من ذلك لتعلم غاية كرمه وجوده. والمغفرة تحتمل التجاوز عنهم ما كان منهم؛ لا يؤاخذوهم بذلك، ويحتمل أن يستر عليهم معاصيهم التي كانت منهم، فلا يذكرون ذلك؛ لأنهم لو ذكروا ذلك نغص عليهم النعم ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ...} أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} لهم من العداوة {وَإِن يَعُودُواْ} لقتاله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام. "الإسلام يجب ما قبله"...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ لَطِيفَةٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً، وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ؛ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذَلَ الْمَغْفِرَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَتَأْلِيفًا عَلَى الْمِلَّةِ، وَتَرْغِيبًا فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا أَنَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا...
"فقد مضت سنة الأولين"... معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} {ولقد سبقت كلمتنا} {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية، و كان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء، كان ذلك موهماً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال: أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة {قل للذين} أي لأجل الذين {كفروا} أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله {إن ينتهوا} أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره {يغفر لهم} بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو محو الذنب {ما قد سلف} أي مما اجترحوه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين الله تعالى حال الكفار الذين يصرون على كفرهم وصدهم عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وما لهم في الدنيا والآخرة قفى عليه ببيان حكم الذين يرجعون عنه ويدخلون في الإسلام، لأن الأنفس صارت تتشوق إلى هذا البيان، وتتساءل عنه بلسان الحال أو المقال، وهو {قل للذين كفروا إن ينتهوا} أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتبليغ: إن ينتهوا عما هم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله والقتال لأوليائه المؤمنين بالدخول في الإسلام {يغفر لهم ما قد سلف} منهم من ذلك ومن غيره من الذنوب، يغفر الله لهم ذلك في الآخرة فلا يعاقبهم على شيء منه، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون ما يخصهم من إجرامهم فلا يطالبون قاتلا منهم بدم، ولا سالبا أو غانما بسلب أو غنم، وقرأ ابن مسعود (إن تنتهوا يغفر لكم) بالخطاب روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أبسط يدك أبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: (ما لك)؟ قلت أردت أن أشترط قال: (تشترط بماذا)؟ قلت أن يغفر لي، قال: (أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله؟) الحديث.
{وإن يعودوا} إلى العداء والصد والقتال {فقد مضت سنّة الأولين} أي تجري عليهم سنته المطردة في أمثالهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، وقال مجاهد: في قريش وغيرها يوم بدر والأمم قبل ذلك، أقول وهي السنة التي عبر عنها بمثل قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 20، 21] وقوله: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51] فإضافة السنة إلى الأولين لملابستها لهم وجريانها عليهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الذنوب مهما تكبر، فباب التوبة مفتوح فما أنزل الله الرسل ليحصوا عدد الذين أساءوا، بل للدعوة إلى الحق، وقد يكفرون فالدعوة تستمر لهدايتهم، ومن يستجب منهم تجب استجابته ما كان منه من قبل؛ ولذلك كان الباب مفتوحا، ولذا أمر الله نبيه – مع كفرهم – أن يقول لهم: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}...