وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا } أى : ووهبنا لإبراهيم فضلا منا وكرما وعوضاً عن قومه لما اعتزلهم ؛ إسحاق وهو ولده من زوجه سارة ، ويعقوب هو ابن إسحاق لتقر عينه ببقاء عقبه ؛ إذ فى رؤية أبناء الأبناء سرور للنفس ، وراحة للفؤاد .
وقوله { كُلاًّ هَدَيْنَا } أى : كلا من إسحاق ويعقوب هديناه الهداية الكبرى بلحقوهما بدرجة أبيهما فى النبوة .
ولفظ { كُلاًّ } مفعول لما بعده وقدم لإفادة اختصاص كل منهما بالهداية على سبيل الاستقلال والتنويه بشأنهما .
وقوله : { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } أى : وهدينا نوحاً من قبل إبراهيم إلى مثل ما هدينا إليه إبراهيم وذريته من النبوة والحكمة .
وهذا لون آخر من تشريف إبراهيم حيث أنه من نسل نوح الى وصفه الله بالهداية ، ولا شك أن شرف الآباء يسرى على الأبناء .
وقال ابن كثير ، " وكل منهما له خصوصية عظيمة . أما نوح فإن الله لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه فى السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم فلم يبعث الله بعده نبيا إلا من ذريته كما قال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب } ثم قال - تعالى - { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين
الضمير فى قوله - تعالى - { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } يرى ابن جرير وغيره أنه يعود إلى نوح لأنه أقرب مذكور .
ويرى جمهور المفسرين أنه يعود على إبراهيم لأن الكلام فى شأنه وفى شأن النعم التى منحها الله إياه .
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا } أي كلا منهما . { ونوحا هدينا من قبل } من قبل إبراهيم ، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد . يتعدى إلى الولد . { من ذريته } الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه . وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم ، فلو كان لإبراهيم ، اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحا . { داود وسليمان وأيوب } أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق . { ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم .
جملة { ووهبنا } عطف على جملة { آتيناها } [ الأنعام : 83 ] لأنّ مضمونها تكرمة وتفضيل . وموقع هذه الجملة وإن كانت معطوفة هو موقع التذييل للجمل المقصود منها إبطال الشرك وإقامةُ الحجج على فساده وعلى أنّ الصالحين كلّهم كانوا على خلافه .
والوَهْب والهِبة : إعطاء شيء بلا عوض ، وهو هنا مجاز في التّفضّل والتّيسير . ومعنى هبة يعقوب لإبراهيم أنّه وُلد لابنه إسحاق في حياة إبراهيم وكبر وتزوّج في حياته فكان قرّة عين لإبراهيم .
وقد مضت ترجمة إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى : { وإذْ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات } [ البقرة : 124 ] . وترجمةُ إسحاق ، ويعقوب ، عند قوله تعالى : { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } [ البقرة : 132 ] وقوله : { وإله آبائك إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] كلّ ذلك في سورة البقرة .
وقوله : { كلاّ هدينا } اعتراض ، أي كلّ هؤلاء هديناهم يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فحذف المضاف إليه لظهوره وعوض عنه التّنوين في « كلّ » تنوينَ عوض عن المضاف إليه كما هو المختار .
وفائدة ذكر هديهما التّنويه بإسحاق ويعقوب ، وأنّهما نبيئان نالا هدى الله كهَدْيه إبراهيم ، وفيه أيضاً إبطال للشرك ، ودمغ ، لقريش ومشركي العرب ، وتسفيه لهم بإثبات أنّ الصالحين المشهورين كانوا على ضدّ معتقدهم كما سيصرّح به في قوله : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ( الأعراف : 88 . (
وجملة : { ونوحاً هدينا من قبل } عطف على الاعتراض ، أي وهدينا نوحاً من قبلهم . وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى ، وإشارة إلى أنّ الهدى هو الأصل ، ومن أعظم الهدى التّوحيد كما علمت . وانتصب { نوحاً } على أنّه مفعول مقدّم على { هدينا } للاهتمام ، و { من قبل } حال من { نوحا } . وفائدة ذكر هذا الحال التّنبيه على أنّ الهداية متأصّلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب . وبُني { قبل } على الضمّ ، على ما هو المعروف في ( قبلُ ) وأخواتِ غيرٍ من حذف ما يضاف إليه قبلُ وينوى معناه دون لفظه . وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى : { إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً } في سورة آل عمران ( 33 .
( وقوله : { من ذرّيته } حال من داوود ، و { داود } مفعول ( هدينا ) محذوفاً . وفائدة هذا الحال التّنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم ، والتّنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذرّيّته . والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم لأنّ نوحاً أقرب مذكور ، ولأنّ لوطاً من ذرّية نوح ، وليس من ذرية إبراهيم حسبما جاء في كتاب التّوراة . ويجوز أن يكون لوط عومل معاملة ذرّيّة إبراهيم لشدّة اتّصاله به . كما يجوز أن يجعل ذكر اسمه بعد انتهاء أسماء من هم من ذرّيّة إبراهيم منصوباً على المدح بتقدير فعللٍ لا على العَطف .
وداود تقدّم شيء من ترجمته عند قوله تعالى : { وقَتل داودُ جالوتَ } في سورة البقرة ( 251 ) .
ونكمّلها هنا بأنّه داود بن يِسيِّ من سبط يهوذا من بني إسرائيل . ولد بقرية بيت لحم سنة1085 قبل المسيح ، وتوفّي في أورشليم سنة 1015 . وكان في شبابه راعياً لغنم أبيه . وله معرفة النغَم والعزف والرمي بالمقلاع . فأوحى الله إلى ( شمويل ) نبيء بني إسرائيل أنْ يبارك داودَ بن يسيّ ، ويمسحه بالزيت المقدّس ليكون ملكاً على بني إسرائيل ، على حسب تقاليد بني إسرائيل إنباء بأنّه سيصير ملكاً على إسرائيل بعد موت ( شاول ) الذي غضب الله عليه . فلمّا مسحه ( شمويل ) في قرية بيت لحم دُون أن يعلم أحد خطر لشاول ، وكان مريضاً ، أن يتّخذ من يضرب له بالعود عندما يعتاده المرض ، فصادف أن اختاروا له داود فألحقه بأهل مجلسه ليسمع أنغامه . ولما حارب جنُدُ ( شاول ) الكنعانيين كما تقدّم في سورة البقرة ، كان النصر للإسرائيليين بسبب داود إذ رمى البطل الفلسطيني ( جالوت ) بمقلاعه بين عينيه فصرعه وقطع رأسه ، فلذلك صاهره ( شاولُ ) بابنته ( ميكال ) ، ثم أن ( شاول ) تغيّر على داود ، فخرج داود إلى بلاد الفلسطينيين وجمع جماعة تحت قيادته ، ولما قُتل ( شاول ) سنة1055 بايعت طائفة من الجند الإسرائيلي في فلسطين داودَ ملكاً عليهم . وجعل مقرّ ملكه ( حَبْرُون ) ، وبعد سبع سنين قُتل ملك إسرائيل الذي خلف شاولَ فبايعت الإسرائيليون كلّهم داود ملكاً عليهم ، ورجع إلى أورشليم ، وآتاه الله النّبوءة وأمره بكتابة الزبور المسمّى عند اليهود بالمزامير .
وسليمان تقدّمت ترجمته عند قوله تعالى : { واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } في سورة البقرة ( 102 .
( وأيّوب نبيء أثبت القرآنُ نبوءته . وله قصّة مفصّلة في الكتاب المعروف بكتاب أيّوب ، من جملة كتب اليهود . ويظُنّ بعض المؤرّخين أنّ أيّوب من ذرّيّة ( ناحور ) أخي إبراهيم . وبعضهم ظنّ أنّه ابن حفيد عيسو بننِ إسحاق بننِ إبراهيم ، وفي كتابه أنّ أيّوب كان ساكناً بأرض عُوص ( وهي أرض حَوران بالشّام ، وهي منازل بني عوص بن إرَم بن سام بن نوح ، وهم أصول عاد ) وكانت مجاورة لحدود بلاد الكلدان ، وقد ورد ذكر الكلدان في كتاب أيّوب وبعض المحقّقين يظنّ أنّه من صنف عَربي وأنّه من عُوص ، كما يدلّ عليه عدم التّعرض لنسبته في كتابه ، والاقتصار على أنّه كان بأرض عوص ( الذين هم من العرب العاربة ) . وزعموا أنّ كلامه المسطور في كتابه كان بلغة عربيّة ، وأنّ موسى عليه السلام نقله إلى العبرانيّة . وبعضهم يظنّ أنّ الكلام المنسوب إليه كان شِعراً ترجمه موسى في كتابه وأنّه أوّل شعر عرف باللّغة العربيّة الأصليّة . وبعضهم يقول : هو أوّل شعر عرفه التّاريخ ، ذلك لأنّ كلامه وكلام أصحابه الثّلاثة الّذين عَزّوه على مصائبه جَارٍ على طريقة شعريّة لا محالة .
ويوسف هو ابن يعقوب ويأتي تفصيل ترجمته في سورة يوسف .
وموسى وهارون وزكرياء تقدّمت تراجمهم في سورة البقرة .
وترجمة عيسى تقدّمت في سورة البقرة وفي سورة آل عمران .
ويحيى تقدّمت ترجمته في آل عمران .
وقوله : { وكذلك نجزي المحسنين } اعتراض بين المتعاطفات ، والواو للحال ، أي وكذلك الوهْب الّذي وهبنا لإبراهيم والهدي الّذي هدينا ذرّيّته نجزي المحسنين مثله ، أو وكذلك الهدي الّذي هدينا ذرّيّة نوح نجزي المحسنين مثل نوح ، فعلم أنّ نوحاً أو إبراهيم من المحسنين بطريق الكناية ، فأمّا إحسان نوح فيكون مستفاداً من هذا الاعتراض ، وأمّا إحسان إبراهيم فهو مستفاد ممّا أخبر الله به عنه من دعوته قومه وبذله كلّ الوسع لإقلاعهم عن ضلالهم .
ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الهدي المأخوذ من قوله : { هدينا } الأول والثّاني ، أي وكذلك الهدي العظيم نجزي المحسنين ، أي بمثله ، فيكون المراد بالمحسنين أولئك المهديّين من ذرّيّة نوح أو من ذرّيّة إبراهيم . فالمعنى أنّهم أحسنوا فكان جزاء إحسانهم أن جعلناهم أنبياء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ووهبنا له}: إبراهيم، {إسحاق ويعقوب كلا هدينا} للإيمان، {ونوحا هدينا} إلى الإسلام {من قبل} إبراهيم، {ومن ذريته}: من ذرية نوح، {داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك} هكذا، {نجزي المحسنين}: هؤلاء الذين ذكرهم الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا وإخلاصه توحيد ربه، ومفارقته فين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين، وآتيناه أجره في الدنيا ووهبنا له أولادا خصصناهم بالنبوّة، وذريّة شرّفناهم منا بالكرامة وفضلناهم على العالمين، منهم ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب. "كُلاّ هَدَيْنَا": هدينا جميعهم لسبيل الرشاد، فوفقناهم للحقّ والصواب من الأديان. "وَنُوحا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ": وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحقّ والصواب فوفقناه له، نوحا من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. "وَمِنْ ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ "والهاء التي في قوله: "وَمِنْ ذُرّيّتِهِ" من ذكر نوح، وذلك أن الله تعالى ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطا، فقال: "وإسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَيُونُس وَلُوطا وَكُلاّ فَضّلْنا على العالَمِينَ" ومعلوم أن لوطا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليه وسلم أجمعين. فإذا كان ذلك، وكان معطوفا على أسماء من سمينا من ذرّيته، كان لا شكّ أنه لو أريد بالذرية ذرّية إبراهيم لما دخل يونس ولوط فيهم، ولا شكّ أن لوطا ليس من ذرّية إبراهيم ولكنه من ذرّية نوح، فلذلك وجب أن تكون الهاء في «الذرّية» من ذكر نوح.
فتأويل الكلام: ونوحا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهدينا أيضا من ذرّية نوح داود وسليمان. وداود: هو داود بن إيشا. وسليمان هو ابنه سليمان بن داود وأيوب هو أيوب بن موص بن روح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم. ويوسف: هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وموسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. وهارون: أخو موسى. "وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ": جزينا نوحا بصبره على ما امتحن به فينا بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحقّ الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه، وهدينا من ذرّيته مِنْ بعده مَن ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا، كذلك نجزي بالإحسان كلّ محسن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} يحتمل ما ذكرنا من رفع الدرجات ما ذكر من هبة هؤلاء. وفيه دليل أن ما يكون له من الفضل في هبة أولاده يكون ذلك في أولاد أولاده. وقوله تعالى: {كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل} والهداية هدايتان: هداية إصابة الحق وهداية العلم بالحق؛ وهي هداية البيان، فهذه الهداية مما يشترك فيها المسلم والكافر جميعا. وأما هداية إصابة الحق فهي خاصة بالرسل والأنبياء والمسلمين. والهداية ههنا هي إصابة الحق لا العلم بالحق لأنهم اشتركوا جميعا في العلم بالحق: [الكفار والمسلمون]. [وقوله تعالى]: {ومن ذريته داوود} قيل: ذرية إبراهيم، وقيل: ذرية نوح؛ كانوا جميعا من ذرية نوح: إبراهيم ومن ذكر من الرسل. وقوله تعالى: {وكذلك نجزي المحسنين} أي {وكذلك نجزي المحسنين} بالذكر والشرف والثناء الحسن إلى يوم القيامة كما جزى هؤلاء الرسل بالذكر والشرف والثناء الحسن في ملإ الناس. ويحتمل أن يذكروا في ملإ الملائكة كما ذكروا في ملإ الخلق في الأرض. ويحتمل {وكذلك نجزي المحسنين} في الآخرة بالثواب ورفع الدرجات والجزاء الجزيل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وكذلك نجزي المحسنين} وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عمله وترغيب في الإحسان.
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه. فأولها: قوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم} والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها. وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك. فعلنا، وقلنا، وذكرنا. ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة، وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم، ومن أجل مراتب العطايا والمواهب. وثانيها: أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة. وهي قوله: {نرفع درجات من نشاء} وثالثها: أنه جعله عزيزا في الدنيا، وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله، ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك، والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد، فقال: {ووهبنا له إسحاق} لصلبه {ويعقوب} بعده من إسحق.
فإن قالوا: لم لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحق، بل أخر ذكره عنه بدرجات؟ قلنا: لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب. وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام، لأنه تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولادا كانوا أنبياء وملوكا، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق.
وأما قوله: {ونوحا هدينا من قبل} فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب، وذلك لأنه رزقه أولادا مثل إسحق، ويعقوب. وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح. وإدريس، وشيث. فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء.
أما قوله: {ومن ذريته داوود وسليمان} فقيل المراد ومن ذرية نوح، ويدل عليه وجوه: الأول: أن نوحا أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب. الثاني: أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطا وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته، بل كان من ذرية نوح عليه السلام، وكان رسولا في زمان إبراهيم. الثالث: أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته، فعلى هذا إسماعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم، بل هو من ذرية نوح عليه السلام. الرابع: قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام، وكان من ذرية نوح عليه السلام.
والقول الثاني: أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام، والتقدير: ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان. واحتج القائلون بهذا القول: بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحا لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم.
واعلم أنه تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء، وهم: نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، والمجموع ثمانية عشر.
فإن قيل: رعاية الترتيب واجبة، والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه؟
قلنا: الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب، وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية، فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتة، لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان. وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب، وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل.
فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق: الملك والسلطان والقدرة، والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما.
والمرتبة الثانية: البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية.
والمرتبة الثالثة: من كان مستجمعا لهاتين الحالتين، وهو يوسف عليه السلام، فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر.
والمرتبة الرابعة: من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام، وذلك كان في حق موسى وهرون.
والمرتبة الخامسة: الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وترك مخالطة الخلق، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين.
والمرتبة السادسة: الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع، وهم إسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه.
المسألة الثانية: قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا} اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم؟ وكذا الكلام في قوله: {ونوحا هدينا من قبل} وكذا قوله في آخر الآية: {ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده}.
قال بعض المحققين: المراد من هذه الهداية الثواب العظيم، وهي الهداية إلى طريق الجنة، وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها: {وكذلك نجزي المحسنين} وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب، فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة. فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه، فإنه لا يكون جزاء له على عمله، وأيضا لا يبعد أن يقال: المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة، وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم، لأنهم اجتهدوا في طلب الحق، فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق، كما قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
والقول الثالث: أن المراد من هذه الهداية: الإرشاد إلى النبوة والرسالة، لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك.
فإن قالوا: لو كان الأمر كذلك لكان قوله: {وكذلك نجزي المحسنين} يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل، وذلك عندكم باطل.
قلنا: يحمل قوله: {وكذلك نجزي المحسنين} على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة، فنزول الإشكال. والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام: {وكلا فضلنا على العالمين} وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى، فيدخل في لفظ العالم الملائكة، فقوله تعالى: {وكلا فضلنا على العالمين} يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين. وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة، ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية: أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء، لأن عموم قوله تعالى: {وكلا فضلنا على العالمين} يوجب ذلك. قال بعضهم: {وكلا فضلنا على العالمين} معناه فضلناه على عالمي زمانهم. قال القاضي: ويمكن أن يقال المراد: وكلا من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام بعد ذلك في أن أي الأنبياء أفضل من بعض، كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى في الآيات السابقة لهذه بعض ما رفع به من درجات إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم بين في هذه فضله ونعمه عليه في حسبه ونسبه، وأعلاه جعل الكتاب والحكم والنبوة في ذريته، فقال: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا} أي ووهبنا لإبراهيم بآية منا إسحاق نبيا من الصالحين، ومن وراء إسحاق ولده يعقوب نبيا نجيبا منجبا للأنبياء والمرسلين، وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما أتيناهما من النبوة والحكمة وقوة الحجة، وتقدم « كلا» على «هدينا» لإفادة اختصاص كل منهما بما ذكر من الهداية على سبيل الاستقلال لا التبع، لأن كلا منهما كان نبيا، هاديا مهديا، وإنما ذكر إسحاق من ولدي إبراهيم دون إسماعيل، لأن هو الذي وهبه الله تعالى له بآية منه بعد كبر سنه ويأس امرأته سارة على عقمها جزاء لإيمانه وإحسانه، وكمال إسلامه لربه وإخلاصه، بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل واستسلامه لأمر ربه في الرؤيا من غير تأويل، ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، وقد ولد له من سرية شابة، ولذلك قال تعالى بعد ذلك قصة الذبيح من سورة الصافات {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 112] وسنبين حكمة تأخير ذكر إسماعيل وذكره من الرسل عليهم السلام...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
..لما ذكر الله تعالى عبده وخليله، إبراهيم عليه السلام، وذكر ما مَنَّ الله عليه به، من العلم والدعوة، والصبر، ذكر ما أكرمه الله به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب. وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله، وأعظم بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة، التي لا يدرك لها نظير فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ابنه، الذي هو إسرائيل، أبو الشعب الذي فضله الله على العالمين. {كُلًّا} منهما {هَدَيْنَا} الصراط المستقيم، في علمه وعمله. {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} وهدايته من أنواع الهدايات الخاصة التي لم تحصل إلا لأفراد من العالم؛ وهم أولو العزم من الرسل، الذي هو أحدهم. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح، لأنه أقرب مذكور، ولأن الله ذكر مع من ذكر لوطا، وهو من ذرية نوح، لا من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه. ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لأن السياق في مدحه والثناء عليه، ولوط -وإن لم يكن من ذريته- فإنه ممن آمن على يده، فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك، أبلغ من كونه مجرد ابن له.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وحاجّه قومه} [الأنعام: 80]. و {تلك} إشارة إلى جميع ما تكلّم به إبراهيم في محاجَّة قومه، وأتي باسم إشارة المؤنّث لأنّ المشار إليه حجّة فأخبر عنه بحجّة فلمَّا لم يكن ثمَّة مشار إليه محسوس تعيّن أن يعتبر في الإشارة لفظ الخبر لا غير، كقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]. وإضافة الحجّة إلى اسم الجلالة للتّنويه بشأنها وصحَّتها.
و {آتيناها} في موضع الحال من اسم الإشارة أو من الخبر. وحقيقة الإيتاء الإعطاء، فحقَّه أن يتعدّى إلى الذّوات، ويكون بمناولة اليد إلى اليد. قال تعالى: {وآتى المال على حبّه ذوي القربى} [البقرة: 177]، ولذلك يقال: اليدُ العليا هي المعطية واليد السّفلى هي المعطاة. ويستعمل مجازاً شائعاً في تعليم العلوم وإفادة الآداب الصالحة وتخويلها وتعيينها لأحد دون مناولة يد سواء كانت الأمور الممنوحة ذواتاً أم معانيَ. يقال: آتاه الله مالاً، ويقال: آتاه الخليفة إمارة و {آتاه الله المُلك} [البقرة: 258]، {وآتيناه الحكمة} [ص: 20]. فإيتاء الحجّة إلهامُه إيّاها وإلقاءُ ما يعبِّر عنها في نفسه. وهو فضل من الله على إبراهيم إذ نصره على مناظريه.
و {على} للاستعلاء المجازي، وهو تشبيه الغالب بالمستعلي المتمكّن من المغلوب، وهي متعلّقة {بحجّتنا} خلافاً لمن منعه. يقال: هذا حجّة عليك وشاهد عليك، أي تلك حجّتنا على قومه أقحمناهم بها بواسطة إبراهيم، ويجوز أن يتعلَّق ب {آتيناها} لمّا يتضمّنه الإيتاء من معنى النصر.
وجملة: {نرفع درجات من نشاء} حال من ضمير الرفع في {آتيناها} أو مستأنفة لبيان أنّ مثل هذا الإيتاء تفضيل للمؤتَى وتكرمة له. ورفع الدّرجات تمثيل لتفضيل الشأن، شبّهت حالة المفضّل على غيره بحال المرتقي في سُلَّم إذا ارتفع من درجة إلى درجة، وفي جميعها رفع، وكلّ أجزاء هذا التمثيل صالح لاعتبار تفريق التّشبيه، فالتّفضيل يُشبه الرّفع، والفضائل المتفاوتة تشبه الدّرجات، ووجه الشّبه عِزّة حصول ذلك لغالب النّاس.
.. والإتيان بصيغة الجمع في {درجات} باعتبار صلاحيّة {من نشاء} لأفراد كثيرين متفاوتين في الرفعة، ودلّ فعل المشيئة على أنّ التفاضل بينهم بكثرة موجبات التّفضيل، أو الجمعُ باعتبار أنّ المفضّل الواحد يتفاوت حاله في تزايد موجبات فضله. وقرأه البقية بتنوين {درجات}، فيكون تمييزاً لنسبة الرفع باعتبار كون الرفع مجازاً في التفضيل. والدرجات مجازاً في الفضائل المتفاوتة.
ودلّ قوله {مَن نشاء} على أنّ هذا التّكريم لا يكون لكلّ أحد لأنّه لو كان حاصلاً لكلّ النّاس لم يحصل الرفع ولا التفضيل.
وجملة: {إنّ ربّك حكيم عليم} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله: {نرفع درجات من نشاء} يثير سؤالاً، يقول: لماذا يرفع بعض النّاس دون بعض، فأجيب بأنّ الله يعلم مستحقّ ذلك ومقدار استحقاقه ويخلق ذلك على حسب تعلّق علمه. فحكيم بمعنى محكم، أي متّقن للخلق والتّقدير. وقدم {حكيم} على {عليم} لأنّ هذا التّفضيل مَظهر للحكمة ثمّ عقّب ب {عليم} ليشير إلى أنّ ذلك الإحكام جار على وفق العلم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن بين الله تعالى هداية إبراهيم عليه السلام والتفكير المستقيم الذي هداه الى ربه وأن الله رفعه بذلك الإدراك المستقيم، ليكون هاديا مرشدا،ذكر الله سبحانه وتعالى ذريته من النبيين الهداة المهدين من بني إسرائيل ومن العرب، واشار سبحانه إلى من سبقه من النبيين، فذكر نوحا، وهو من قبله.
لم يستطع إبراهيم المقام في قومه بعد أن بلغ ما بلغ من الإدراك، وبعد أن اتسعت الهوة بينه وبينهم عندما جعل أصنامهم جذاذا وألقوه في النار...
رأى إبراهيم ذلك، وأنه لا مقام له بينهم ولا قبل له بتحويلهم فهاجر واعتزلهم وأخذ يطوف في الآفاق فذهب إلى بلاد الشام، والى مصر وأخذ رسول التوحيد يبث التوحيد في كل ركن، ولا يصاحبه الا امرأته ومعه ابن أخيه لوط عليهما السلام.
عوضه الله تعالى عن هذا الانفراد في هذا التطواف أن وهب له إسحاق ويعقوب، ومن جاء من ذريتهما، وأن جعل من ذريته إسماعيل ويونس ولوطا.
وإذا كان قد عاش مفردا داعيا الله تعالى بين الوثنيين في الأرض فقد عوضه عن هذا الانفراد بأن جعل في ذريته النبوة والحكمة، وقد قال تعالى فور اعتزاله لقومه، وهجرته عنهم: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا 49) (مريم) وان هذه المهمة لم تكن فور اعتزالهم بل بعد أن جاهد داعيا إلى الوحدانية في وسط المدينة حينما كان في بلاد المشرق أن بلغ الكبر، فقد قال تعالى حكاية عنه: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ان ربي لسميع الدعاء 39) (إبراهيم).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى فيمن وهبهم له من الأنبياء خمسة عشر نبيا وذكر نوحا من قبله لأنه أبو الخليقة بعد آدم عليه السلام فهو الأب الثاني.
ولقد ذكر الله تعالى طائفة من أنبياء الله تعالى من ذرية إبراهيم بلغ عددها كما ذكرنا خمسة عشر نبيا، كان لكل منهم مزية خصه الله تعالى بها، وذكر رسالة نوح من قبل.
وان الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآيات من ذرية إبراهيم أولا: إسحاق ويعقوب، لأن إسحاق أول أنبياء بني إسرائيل، وهو الأب الأول لهم، ويعقوب الذي يسمى إسرائيل وينسبون إليه، وجاء الرسل والأنبياء من بعده، وقال تعالى عنهما،
(كلا هدينا) أي أعطى الله تعالى كل واحد منهما هداية قائمة بذاتها لأن كل واحد كان نبيا مبعوثا وتلك مكرمة لإبراهيم أن جعل ابنه وحفيده نبيين كل له هداية وبعثة.
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني، ولا ترتيب في المكانة، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل، وغيرهم، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها.
المجموعة الأولى: بعد ذكر نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها، وان تلاقت الهدايات كلها، لأنها من الله تعالى موحد الشرائع وهم: داود وسليمان، وأيوب ويوسف، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر، وهو واضح في حياة كل نبي منهم فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض، ولهما ملك شرقي وغربي، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم، الامتناع عن الظلم، وهو شهوة الملوك وداؤهم وإن الصبر على نعمة يحتاج الى أفق أوسع من الصبر في الشديدة فتحرى الأحكام وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب 160 مدرك ونفس هادية مؤمنة.
وكان داود وسليمان من رجال الحرب الذين لاقوا باسها وشدتها والصبر في البأس أمر واضح بين، وأيوب عليه السلام صبر على الضراء إذ نادى ربه رب اني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر، إنه صبر أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.
ويوسف عليه السلام كان عبدا صابرا صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على البأساء والشديدة حتى إنه ليسترق وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في ادق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوي الشهوات،(...ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء...24) (يوسف) وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه والا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين 33) (يوسف).
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيأ الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوى أن يجلس على عرش مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق الرفيق، ثم يكون بعد ذلك الصبر الكريم عن حب الانتقام، والعفو الذي تطيب به النفوس فيقول لإخوته: (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين 92) (يوسف).
وموسى وهارون، وكانا من عباد الله الصابرين صبرا على أذى فرعون لقومهما كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم وصبر موسى كليم الله الذي عاش في بيت فرعون عدو قومه، فصبر على مجابهة أهله حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل فرعون وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة.
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من ارض فرعون صبر على فساد قلوبهم، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادئ وصبر على كفرهم وعاود دعوتهم إلى الإيمان وصبر عندما اتخذوا العجل إلها، وصبر عليهم وهم يقولون اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها فقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
ثم كان القتال بهؤلاء المستخدمين الضعفاء في أنفسهم الأقوياء في ابدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وإني أحسب أن صبره عليهم، كان كصبر أيوب، وإن اختلف الشكلان والنوعان ولكن كليهما صبر.
وختم سبحانه الآية بقوله: (وكذلك نجزي المحسنين) أي كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر.