31- إنهم يطلبون معجزة غير القرآن مع عظم تأثيره لو طلبوا الحق وأذعنوا له ، فلو ثبت أن كتاباً يُقرأ فتتحرك به الجبال من أماكنها ، أو تتصدع به الأرض ، أو تخاطب به الموتى ، لكان ذلك هو القرآن ، ولكنهم معاندون ، ولله - وحده - الأمر كله في المعجزات وجزاء الجاحدين ، وله في ذلك القدرة الكاملة ، وإذا كانوا في هذه الحال من العناد ، أفلا ييأس الذين أذعنوا للحق من أن يؤمن هؤلاء الجاحدين ، وإن جحودهم بإرادة الله ، ولو أراد أن يهتدي الناس جميعاً لاهتدوا ، وأن قدرة الله ظاهرة بين أيديهم ، فلا يزالون تصيبهم بسبب أعمالهم القوارع الشديدة التي تهلكهم ، أو تنزل قريباً منهم ، حتى يكون الموعد الذي وعد الله به ، والله تعالي لا يخلف موعده .
ثم أشار - سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى . . . } .
والمراد بالقرآن هنا : معناه اللغوى ، أى الكلام المقروء .
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه .
والمعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية ، { سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } أى : تحركت من أماكنها ، { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } أى شققت وصارت قطعا ، { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم .
ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن ، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير ، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب .
وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم ، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية كونية سواه .
ويصح أن يكون المعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، لما آمن هؤلاء المعاندون .
قال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان غلوهم في العناد والطغيان ، وتماديهم في الكفر والضلال ، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة .
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الإِمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقوله - سبحانه - { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً } إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله ، وأن قدرته - سبحانه - لا يعجزها شئ .
أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها ، ولكن إرادته - سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه ، لعلمه - سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات .
وقوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق ، إلا أن شاء الله لهم الهداية ، والاستفهام للإِنكار ، وأصل اليأسك قطع الطمع في الشئ والقنوط من حصوله .
وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :
أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع الطمع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش ، ويعلموا أن الله - تعالى - لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا ، ولكنه لم يشأ ذلك ، ليتميزا الخبيث من الطيب .
وعلى هذا الاتجاه سار الإِمام ابن كثير فقد قال - رحمه الله - : وقوله - تعالى { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أى : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .
وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطى في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، اطلب لهم - أى للمشركين ، ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا .
أما الاتجاه فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم ، وعليه يكون المعنى : أفلم يعلم المؤمنون أنه - سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا .
وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه :
ومعنى قوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أفلم يعلموا ، وهى كما قال القاسم بن معن لغة هوازن ، وقال الكلبى هي لغة حى من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سيحم بن وئيل الرباحى :
أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى . . . ألم ييأسوا أنى ابن فارس زهدم
ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه . . . وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقه .
وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشئ عالم بأنه لا يكون . .
والفاء للعطف على مقدر . أى : أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله - تعالى - فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . .
ثم حذر - سبحانه - الكافرين من التمادى في كفرهم ، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .
والقارعة : من القرع ، وهو ضرب الئ بشئ آخر بقوة وجمعها قوارع .
والمراد بها : الرزية والمصيبة والكارثة .
أى : ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال " قارعة " أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم ، فيتطاير شرها إليهم ، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم ، إن الله - تعالى - لا يخلف الميعاد ، أى : موعوده لرسله ولعباده المؤمنين .
وأبهم - سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع ، لتهويله وبيان شدته .
والتعبير بقوله : { ولا يزال } يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية ، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها ، لأن الفعل { لا يزال } يدل علىا لإخبار باستمرار شئ واقع .
ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتى أشار إليها القرآن بقوله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ . يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ . . . } وعبر - سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة ، للمبالغة في شدته وقوته ، حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبتهتهم ويزعجهم ، ولذلك سميت القيامة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب بأهوالها .
وقال - سبحانه - : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مُرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له ، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم ، وتقلق أمنهم ، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .
ولقد قضى الله - تعالى - أمره ، بهزيمتهم في بدر وفى غيرهم ، وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة . وبدخول الناس في دين الله أفواجا .
{ ولو أن قرآنا سُيّرت به الجبال } شرط حذف جوابه والمراد منه تعظيم شأن القرآن ، أو المبالغة في عناد الكفرة وتصميمهم أي : ولو أن كتابا زعزعت به الجبال عن مقارها . { أو قطّعت به الأرض } تصدعت من خشية الله عند قراءته أو شققت فجعلت أنهارا وعيونا . { أو كُلّم به الموتى } فتسمع فتقرؤه ، أو فتسمع وتجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار ، أو لما آمنوا به كقوله : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } الآية . وقيل إن قريشا قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين وقطائع ، أو سخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ، أو ابعث لنا به قصي بن كلاب وغيره من آبائنا ليكلمونا فيك ، فنزلت . وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير . وقيل الجواب مقدم وهو قوله : { وهم يكفرون بالرحمان } وما بينهما اعتراض وتذكير { كلم } خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي . { بل لله الأمر جميعا } بل لله القدرة على كل شيء وهو إضراب عما تضمنته { لو } من معنى النفي أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك ، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم ويؤيد ذلك قوله : { أفلم يأس الذين آمنوا } عن أيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم ، وذهب أكثرهم إلى أن معناه أفلم يعلم لما روي أن علي وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين قرؤوا " أفلم يتبين " وهو تفسير وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم ، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوما ولذلك علقه بقوله : { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } فإن معناه نفى هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم ، وهو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أفلم يأس الذين آمنوا عن إيمانهم علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أو { بآمنوا } . { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } من الكفر وسوء الأعمال . { فارعة } ذاهبة تقرعهم وتقلقهم . { أو تحل قريبا من دارهم } فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها . وقيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالوا مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا زال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم وتختطف مواشيهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون تحل خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية . { حتى يأتي وعد الله } الموت أو القيامة أو فتح مكة . { إن الله لا يُخلف الميعاد } لامتناع الكذب في كلامه .
ويحتمل قوله : { ولو أن قرآنا } الآية ، أن يكون متعلقاً بقوله : { وهم يكفرون بالرحمن } فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل «قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض » - هذا تأويل الفراء وفرقة من المتأولين{[6966]} - وقالت فرقة : بل جواب { لو } محذوف ، تقديره : ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه{[6967]} ، وقال أهل هذا التأويل - ابن عباس ومجاهد وغيرهما - إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً - فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ، وقالت فرقة : جواب { لو } محذوف ، ولكن ليس في هذا المعنى ، بل تقديره : لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به ، وتتضمن الآية - على هذا - تعظيم القرآن ، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية .
وقوله : { بل لله الأمر جميعاً } يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين .
وقوله : { أفلم ييئس الذين آمنوا } الآية ، { ييئس } معناه : يعلم ، وهي لغة {[6968]}هوازن - قاله القاسم بن معن - وقال ابن الكلبي : هي لغة هبيل حي من النخع ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي : [ الطويل ]
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني . . . ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم{[6969]}
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : { ولو أن قرآناً } الآية - على التأويلين في المحذوف المقدر - قال في هذه الآية : أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة ، علماً منهم { أن لو يشاء لهدى الناس جميعاً } .
وقرأ ابن كثير وابن محيصن «يأيس » وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد «أفلم يتبين »{[6970]} .
ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته .
وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد : «ولا يزال الذين ظلموا » ثم قال : { أو تحل } أنت يا محمد { قريباً من دارهم } هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى { أو تحل } القارعة { قريباً من دارهم } .
وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير : «أو يحل » بالياء «قريباً من ديارهم » بالجمع .
و «وعد الله » - على قول ابن عباس وقوم - فتح مكة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة ، وأن حال الكفرة هكذا هي أبداً . و «وعد الله » : قيام الساعة ، و «القارعة » : الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه .
{ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ، ألم يايئس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا }
يجوز أن تكون عطفاً على جملة { كذلك أرسلناك في أمة } لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السّلام كما أشار إليه صفة { أمة قد خلت من قبلها أمم } ، فتكون جملة { ولو أن قرآناً } تتمة للجواب عن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } .
ويجوز أن تكون معترضة بين جملة { قل هو ربي } وبين جملة { أفمن هو قائم على كل نفس } [ سورة الرعد : 33 ] كما سيأتي هنالك . ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفاً على جملة { هو ربي لا إله إلا هو } .
والمعنى : لو أن كتاباً من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك ، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية .
وجواب { لو } محذوف لدلالة المقام عليه . وحذفُ جواب { لو } كثير في القرآن كقوله : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ سورة الأنعام : 27 ] وقوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ سورة السجدة : 12 ] .
ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم ، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب ، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة :
ولو طَارَ ذو حافر قَبلها *** لطارتْ ولكنه لم يَطِر
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس : أن كفار قريش ، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي فقالوا : لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة ، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها ، أو أخرج قصَياً نكلمه .
وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } [ سورة الأنعام : 111 ] ، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم . وعلى هذا يكون { قطعت به الأرض } قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } [ سورة الأنعام : 94 ] .
وجملة { بل لله الأمر جميعاً } عطف على { ولو أن قرآناً } بحرف الإضراب ، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء ، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم ، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم ، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه .
ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري : لأحملنّك على الأدهم ( يريد القيد ) . فأجابه القبعثري بأن قال : مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، فصرفه إلى لون فرس .
والأمر هنا : التصرف التكويني ، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئاً مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء .
وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب { بل } من طرق القصر ، فاللام في قوله : { الأمر } للاستغراق ، و { جميعاً } تأكيد له . وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب { بل } العاطفة .
وفرع على الجملتين { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا ، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً .
وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } [ سورة الرعد : 27 ] .
و{ ييأس } بمعنى يوقن ويعلم ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع { أن } المصدرية ، وأصله مشتق من اليَأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث ، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة ، ومنه قول سُحَيم بن وَثيل الرياحي :
أقول لهم بالشّعْب إذ يَيْسَرُونَنِي *** ألم تأيسوا أني ابنُ فارس زهدم
وقد قيل : إن استعمال يَئِس بمعنى عَلِم لغة هَوازن أو لغة بنِي وَهْبيل ( فخذ من النخَع سمي باسم جَد ) . وليس هنالك ما يلجىء إلى هذا . هذا إذا جعل { أن لو يشاء الله } مفعولاً ل { ييأس } . ويجوز أن يكون متعلق { ييأسْ } محذوفاً دل عليه المقام . تقديره : مِن إيمان هَؤلاء ، ويكونَ { أن لو يشاء الله } مجروراً بلام تعليل محذوفة . والتقدير : لأنه لو يشاء الله لهدى الناس ، فيكون تعليلاً لإنكار عَدَم يأسهم على تقدير حصوله .
{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .
معطوفة على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } على بعض الوجوه في تلك الجملة . وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن ، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به ، فهددوا بما سيحلّ بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلّت فيهم وتخيف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكّة .
واستعمال { لا يزال } في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع ، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض ، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله .
ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } [ سورة البقرة : 155 ] .
ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم . وهو لا ملجىء إليه .
والقارعة : في الأصل وصف من القرع ، وهو ضرب جسم بجسم آخر . يقال : قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة . ولما كان القرع يحدث صوتاً مباغتاً يكون مزعجاً لأجل تلك البغتة صار القرع مجازاً للمباغتة والمفاجأة ، ومثله الطّرْق . وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف مُلتزم الحذف اختصاراً لكثرة الاستعمال ، وهو ما يؤوّل بالحادثة أو الكائنة أو النازلة ، كما قالوا : داهية وكارثة ، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعاً على النفس . ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة .
والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها . وهي مِثل الغارة والكارثة تحلّ فيهم فيصيبهم عذابها ، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم ، فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال ، ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة .
ومعنى { بما صنعوا } بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيئَهم . وأتي في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم .
وضمير { تحل } عائد إلى { قارعة } فيكون ترديداً لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريباً من أرضهم فهم في رعب منها وفزع ويجوز أن يكون { تحل } خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنتَ مع الجيش قريباً من دارهم . والحلول : النزول .
وتحُلّ : بضم الحاء مضارع حَلّ اللازم . وقد التزم فيه الضم . وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح لامية الأفعال ، وهو وجيه .
و { وعد الله } من إطلاق المصدر على المفعول ، أي موعود الله ، وهو ما توعدهم به من العذاب ، كما في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ سورة آل عمران : 12 ] ، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم ، فكان المعنى أنه غلبُ القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى . ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح .
وإتيان الوعد : مجاز في وقوعه وحلوله .
وجملة { إن الله لا يخلف الميعاد } تذييل لجملة { حتى يأتي وعد الله } إيذاناً بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع . والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: وهم يكفرون بالرحمن "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ": أي يكفرون بالله ولو سير لهم الجبال بهذا القرآن. وقالوا: هو من المؤخر الذي معناه التقديم. وجعلوا جواب «لو» مقدّما قبلها، وذلك أن الكلام على معنى قيلهم: ولو أن هذا القرآن سيرت به الجبال أو قُطّعت به الأرض، لكفروا بالرحمن... عن ابن عباس، قوله: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى "قال: هم المشركون من قريش، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو وسعت لنا أودية مكة، وسيرت جبالها، فاحترثناها، وأحييت من مات منا، أو قطّعت به الأرض، أو كلم به الموتى فقال الله تعالى: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَميعا"...
وقال آخرون: بل معناه: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ" كلام مبتدأ منقطع عن قوله: "وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرّحْمَنِ". قال: وجواب «لو» محذوف استغني بمعرفة السامعين المرادَ من الكلام عن ذكر جوابها. قالوا: والعرب تفعل ذلك كثيرا... عن قتادة، قوله: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى" ذكر لنا أن قُريشا قالوا: إن سرّك يا محمد اتباعك، أو أن نتبعك، فسير لنا جبال تهامة، أو زد لنا في حرمنا، حتى نتخذ قطائع نخترف فيها، أو أَحْي لنا فلانا وفلانا ناسا ماتوا في الجاهلية. فأنزل الله تعالى: "وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلّمَ بِهِ المَوْتَى" يقول: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم...
«أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللّهُ لَهَدَى النّاسَ جَمِيعا».
اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: "أفَلَمْ يَيْأَسِ" فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه: ألم يعلم ويتبيّن... وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول: يئست بمعنى: علمت، ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا: يئست، بمعنى: علمت، يتوجه إلى ذلك أن الله قد أوقع إلى المؤمنين، أنه لو شاء لهدَى الناس جميعا، فقال: أفلم ييأسوا علما، يقول: يؤيسهم العلم، فكان فيه العلم مضمرا، كما يقال: قد يئست منك أن لا تفلح علما... وأما أهل التأويل فإنهم تأوّلوا ذلك بمعنى: أفلم يعلم ويتبين...
والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل: إن تأويل ذلك: أفلم يتبين ويعلم لإجماع أهل التأويل على ذلك...
فتأويل الكلام إذن: ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال لسير بهذا القرآن، أو قطّعت به الأرض لقطّعت بهذا، أو كلّم به الموتى لكلّم بهذا، ولو يفعل بقرآن قبل هذا القرآن لفُعل بهذا. "بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِيعا" يقول: ذلك كله إليه وبيده، يهدي من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له، ويضلّ من يشاء فيخذله، أفلم يتبين الذين آمنوا بالله ورسوله إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم من تسيير الجبال عنهم وتقريب أرض الشام عليهم وإحياء موتاهم، أن لو يشاء الله لهدَى الناس جميعا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه. يقول تعالى ذكره: فما معنى محبتهم ذلك مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إليّ وبيدي أنزلت آية أو لم أنزلها أهدي من أشاء بغير إنزال آية، وأضلّ من أردت مع إنزالها.
«وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إنّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الميعادَ».
يقول تعالى ذكره: ولا يزال يا محمد الذين كفروا من قومك تُصيبهم بما صنعوا من كفرهم بالله وتكذيبهم إياك وإخراجهم لك من بين أظهرهم قارعة، وهي ما يقرعهم من البلاء والعذاب والنقم، بالقتل أحيانا، وبالحروب أحيانا، والقحط أحيانا. "أو تحلّ" أنت يا محمد، يقول: أو تنزل أنت قريبا من دارهم بجيشك وأصحابك "حتى يأتي وعد الله" الذي وعدك فيهم، وذلك ظهورك عليهم وفتحك أرضهم وقهرك إياهم بالسيف. "إنّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ" يقول: إن الله منجزك يا محمد ما وعدك من الظهور عليهم، لأنه لا يخلف وعده... عن ابن عباس، في قوله: "وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قارِعَةٌ" قال: سرية. "أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ" قال محمد: حتى يأتي وعد الله، قال: فتح مكة...
وقال آخرون: معنى قوله: "أوْ تَحُلّ قَرِيبا مِنْ دَارِهِمْ": تحلّ القارعة قريبا من دارهم...
وقال آخرون في قوله: "حتى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ" قال: يوم القيامة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ"... لو أن قرآنك الذي تقرأ عليهم (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) لما آمنوا بك، ولما صدقوك على رسالتك على ما لا يؤمنون بالرحمن، وكل من الخلائق له آية لوحدانيته، يخبر عن شدة تعنتهم وتمردهم في تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سؤالهم الآية سؤال تعنت وتمرد، ليس سؤال استرشاد واستهداء...
(أفلم ييأس الذين آمنوا) من إيمانهم لكثرة ما رأوا منهم من العناد والتعنت بعد رؤيتهم الآيات والحجج، كأن أهل الإيمان والإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات التي سألوا هم رغبة في إسلامهم وإشفاقا عليهم، فيقول، والله أعلم، ألم يأن للذين آمنوا الإياس من إيمانهم؛ أي قد آن للذين آمنوا أن ييأسوا من إيمانهم كقوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) الآية [الأنعام: 111]. فعلى ذلك هذا؛ يقول: قد آن للذين آمنوا أن ييأسوا من إيمانهم، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا، كقوله: (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) [الأنعام: 111]...
وقوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) محتمل ما ذكر من إصابة القارعة الجوع والشدائد التي أصابتهم، ويحتمل القتال والحروب التي كانت بينه وبينهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذه الآية تتضمن وصف القرآن بغاية ما يمكن من علو المنزلة وبلوغه أعلى طبقات الجلال، لأنه تعالى قال:"لو أن قرآنا سيرت به الجبال" من مواضعها وقلعت من أماكنها لعظم محله وجلالة قدره. والتسيير: تصيير الشيء بحيث يسير... "أو قطعت به الارض "لمثل ذلك.
والتقطيع: تكثير القطع... والقطع: فصل المتصل "أو كلم به الموتى" لمثل ذلك حتى يعيشوا أو يحيوا، تقول: كلمه كلاما، وتكلم تكلما، والكلام: ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله لإفادة. والموتى: جمع ميت... ولم يجئ جواب (لو) لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لكان هذا القرآن لعظم محله في نفسه وجلالة قدره...
وقوله: "بل لله الامر جميعا" معناه أن جميع ما ذكر -من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، وكل تدبير يجري هذا المجرى- لله، لأنه لا يملكه ولا يقدر عليه سواه.
وقوله: "أفلم ييأس الذين آمنوا" قيل في معناه قولان:...
الثاني: قال الفراء: معناه" أفلم ييأس الذين آمنوا "أن ينقطع طمعهم من خلاف هذا، علما بصحته... والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه.
وقوله" لو يشاء الله لهدى الناس جميعا "معناه ألم يعلموا أن الله لو أراد أن يهدي خلقه كلهم إلى جنته لهداهم، لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق. ويحتمل أن يكون المعنى: لو أراد أن يلجئهم إلى الاهتداء لقدر على ذلك، لكنه ينافي التكليف ويبطل الغرض منه.
وقوله: "ولايزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة" فالقارعة هي: الداهية المهلكة، وهي النازلة التي تزعج بالنعمة...
وقوله" أو تحل قريبا من دارهم "قيل في معناه قولان:
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شؤمُ كُفْرِهم لا يزال واصلاً إليهم، ومقتصُّ فعلهم لاحِقٌ بهم أبداً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى: ولو أن قرآنا {سُيّرَتْ بِهِ الجبال} عن مقارّها، وزعزعت عن مضاجعها {أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض} حتى تتصدع وتتزايل قطعاً {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن، لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف... {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} على معنيين، أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها؛ إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان، وهو قادر على الإلجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله: {أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء الله} يعني مشيئة الإلجاء والقسر {لَهَدَى الناس جَمِيعًا}...
{إن الله لا يخلف الميعاد} والغرض منه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة الحزن عنه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من الجواب عن الكفر بالموحى، عطف على "هو ربي "الجواب عن الكفر بالوحي فقال: {ولو} إشارة إلى أنه يعتقد في القرآن ما هو أهله بعد ما أخبر عن اعتقاده في الرحمن، أي وقل: لو {أن قرآناً} كانت به الآيات المحسوسات بأن {سيرت} أي بأدنى إشارة من مشير ما {به الجبال} أي فأذهبت على ثقلها وصلابتها عن وجه الأرض {أو قطعت} أي كذلك {به الأرض} أي على كثافتها فشققت فتفجرت منها الأنهار {أو كلم به الموتى} فسمعت وأجابت لكان هذا القرآن، لأنه آية لا مثل لها، فكيف يطلبون آية غيره!... ولما كان هذا كله إقناطاً من حصول الإيمان لأحد بما يقترح، تسبب عنه الإنكار على من لم يفد فيه ذلك فقال تعالى: {أفلم} بفاء السبب {ييئس الذين آمنوا} من إيمان مقترحي الآيات بما يقترحون لعلمهم {أن} أي بأنه {لو يشاء الله} أي الذي له صفات الكمال -هداية كل أحد مشيئة مقترنة بوجوده {لهدى الناس} وبين أن اللام للاستغراق بقوله: {جميعاً} أي بأيسر مشيئة، والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه، لكنه لم يهدهم جميعاً فلم يشأ ذلك، ولا يكون إلا ما شاءه، فلا يزال فريق منهم كافراً... ولما علم من ذلك أن بعضهم لا يؤمن، ضاقت صدور المؤمنين لذلك لما يعاينونه من أذى الكفار فأتبعه ما يسليهم عاطفاً على ما قدرته من نتيجة عدم المشيئة، فقال: {ولا يزال الذين كفروا} أي ستروا ضياء عقولهم {تصيبهم بما صنعوا} أي مما مرنوا عليه من الشر حتى صار لهم طبعاً {قارعة} أي داهية تزعجهم بالنقمة من بأسه على يد من يشاء، وهو من الضرب بالمقرعة {أو تحل} أي تنزل نزولاً ثانياً تلك القارعة {قريباً من دارهم} أي فتوهن أمرهم {حتى يأتي وعد الله} أي الملك الأعظم بفتح مكة أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك، لأنه لا يُبقي على الأرض كافراً، وفي غير ذلك من الأزمان كزمن فتح مكة المشرفة، فيكون المعنى خاصاً بالبعض {إن الله} أي الذي له مجامع الكمال {لا يخلف الميعاد} أي الوعد ولا زمانه ولا مكانه؛ والوعد: عقد الخبر بتضمن النفع، والوعيد: عقده بالزجر والضر، والإخلاف: نقض ما تضمن الخبر من خير أو شر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن. هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات. ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين... ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى. لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته. فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟!... والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى. وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحول الموتى عن الموات! (بل لله الأمر جميعا). وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال. فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم؛ وأن يدعوا الأمر لله، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد. أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه.. ولكن لم يرد هذا ولا ذاك. لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان. فليدعوهم إذن لأمر الله... فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك. (أو تحل قريبا من دارهم).. فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب {لو} محذوف لدلالة المقام عليه...
ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب... وجملة {بل لله الأمر جميعاً} عطف على {ولو أن قرآناً} بحرف الإضراب، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه...
وفرع على الجملتين {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً...
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِي وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد}...
واستعمال {لا يزال} في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله...
و {وعد الله} من إطلاق المصدر على المفعول، أي موعود الله، وهو ما توعدهم به من العذاب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن المشركين طلبوا آيات: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه} [الأنعام 37]، وكأنهم لا يعتدون بما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من معجزة القرآن، وأنه سبحانه تعالى تحداهم أن يأتوا سورة من مثله، وبدا عجزهم، وظهر إعجازه، ولم يكن لأي آية غير ذلك التحدي المعجز، ولأجل ذلك بين الله سبحانه وتعالى مقام القرآن في ذاته، وأنه أغلى كلام في الوجود، ولو أن كلامه يسير الجبال لسيرها، ولو أن قرآنا يقطع الأرض أجزاء لقطعها... وكان على الكافرين أن يرجعوا عن غيهم، ويسيروا في طريق الرشاد، فالقوارع تنزل بهم قارعة يعد قارعة، أو تحل قريبا من دارهم؛ ولذا قال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} القارعة: الكارثة الداهية أو الشديدة التي تقرع حسا قرعا، تنبههم إلى ما هم فيه من الضلال، فمن لا ينهه الدليل والبرهان، ولا يجديه البرهان لا ينتبه بالعقل، بل لا بد من الشدة تقرع حسه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} أي لما آمنوا به، ما دام تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، بالنسبة لهؤلاء المعاندين المصرين إنما هو مجرد تحد وإصرار، وعتو واستكبار، وليس الأمر أمر استجلاء للحقائق أو تطلع إلى استكناه الأسرار، فالمعنى المراد إذن أنهم "لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية". {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله} مواساة من الله لرسوله والمؤمنين، وتعريف لهم بأن الحرب التي تدور رحاها بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، مستمرة إلى يوم الدين، وأن أعداء الله وخصوم دينه لا بد أن يلاقوا جزاءهم، بشكل أو آخر على مر الأيام، فكلما انجلت عنهم قارعة وأمنوا مكر الله حلت بساحتهم قارعة أخرى أدهى وأمر، وهم بين القارعتين الماضية والآتية في خوف وهلع، واضطراب وجزع، كما جرى في حروبهم المتتالية، ولاسيما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإن لم تحل القارعة بدارهم وتقض عليها، حلت بأقرب مكان إليها، وهكذا يمهلهم الله ولا يهملهم، وهو القاهر فوق عباده {إن الله لا يخلف الميعاد}...
... قد ظن بعض من المسلمين أن كفر هؤلاء قد يشقي المؤمنين بزيادة العنت من الكافرين ضدهم؛ لذلك يوضح الحق سبحانه لأهل الإيمان أن نصره قريب، فيقول سبحانه: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد "31 "} (سورة الرعد) أي: اطمئنوا يا أهل الإيمان؛ فلن يظل حال أهل الكفر على ما هو عليه؛ بل ستصيبهم الكوارث وهم في أماكنهم، وسيشاهدون بأعينهم كيف ينتشر الإيمان في المواقع التي يسودونها؛ وتتسع رقعة أرض الإيمان، وتضيق رقعة أهل الكفر؛ ثم يأتي نصر الله وقد جاء نصر الله ولم يبق في الجزيرة العربية إلا من يقول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"...