وقوله : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } إرشاد من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا ما لج أعداؤه في طغيانهم .
أى : وإن تمادى هؤلاء الأشرار في طغيانهم وفى تكذيبهم لك يا محمد ، فقل لهم : أنا مسئول عن عملي أمام الله ، وأنتم مسئولون عن أعمالكم أمامه - سبحانه - وأنتم بريئون مما أعمله فلا تؤاخذوني عليه ، وأنا برئ كذلك من أعمالكم فلا يؤاخذني الله عليها .
فالآية الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه . وإعلام له بأن وظيفته البلاغ ، أما حسابهم على أعمالهم فعلى الله - تعالى - .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وإن كذبك{[14242]} هؤلاء المشركون ، فتبرأ منهم ومن عملهم ، { فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } كقوله تعالى : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين } [ سورة الكافرون ] . وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين : { إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .
وقوله { وإن كذبوك } ، آية مناجزة لهم ومتاركة وفي ضمنها وعيد وتهديد ، وهذه الآية نحو قوله { قل يا آيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] إلى آخر السورة ، وقال كثير من المفسرين منهم ابن زيد : هذه الآية منسوخة بالقتال لأن هذه مكية ، وهذا صحيح{[6123]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: وإن كذّبك يا محمد هؤلاء المشركون وردّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم لي ديني وعملي ولكم دينكم وعملكم، لا يضرّني عملكم، ولا يضرّكم عملي، وإنما يُجَازَى كلّ عامل بعمله؛" أنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أعْمَلُ "لا تؤاخذون بجريرته، "وأنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ" لا أؤاخذ بجريرة عملكم. وهذا كما قال جلّ ثناؤه: "قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أنْتُمْ عابِدْونَ ما أعْبُدُ".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وفائدة ذلك الإخبار بأنه لا يجازى أحد إلا على عمله، ولا يؤخذ أحد بجرم غيره كما قال تعالى "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
والبراءة: قطع العلقة التي توجب رفع المطالبة، وذلك كالبراءة من الدين، والبراءة من العيب في البيع، ولم يقل النبي (صلى الله عليه وآله) هذا القول شكا منه فيما يجازي الله الكفار والمؤمنين به من الثواب والعقاب، وانما قال على وجه التلطف لخصمه وحسن العشرة، وأن لا يستقبلهم بما يكرهونه من الخطاب، فربما كان داعيا لهم ذلك إلى الانقياد والنظر في قوله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَرِحَ الخفاءُ، واستبانت الحقائق، وامتاز الطريقان، فلا المحسنُ بِجُرْمِ المسيء مُعَاقَبٌ، ولا المسيء بِجُرْمِ المحسن مُعاتَب، كُلُّ على حِدَةٍ بما يعملون وعلى ما يفعله مُحَاسَب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِن كَذَّبُوكَ} وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت، كقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيء} [الشعراء: 216]
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وإن كذبوك}، آية مناجزة لهم ومتاركة وفي ضمنها وعيد وتهديد.
قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئا من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قسمتهم هذه الآية قسمين، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو، عرف أنه معطوف على مطوي القسم الأول، فكان كأنه قيل: فإن صدقوك فقل: الله ولي هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي: {وإن كذبوك فقل} أي قول منصف معتمد على قادر عالم {لي عملي} بالإيمان والطاعة {ولكم عملكم} ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم: {أنتم بريئون مما أعمل} أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء {وأنا بريء مما تعملون} لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه؛ والبراءة: قطع العلقة الذي يوجب رفع المطالبة، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بآية السيف، فإنه لا منافاة بينهما، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب على تقرير مواقفهم من هذا الكتاب بتوجيه الخطاب للرسول -[ص]- بألا يتأثر بتكذيب المكذبين، وأن ينفض يديه منهم. ويعلنهم ببراءته من عملهم، ويفاصلهم على ما معه من الحق في وضوح وفي حسم وفي يقين: (وإن كذبوك فقل: لي عملي ولكم عملكم. أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء مما تعملون)؛ وهي لمسة لوجدانهم، باعتزالهم وأعمالهم، وتركهم لمصيرهم منفردين، بعد بيان ذلك المصير المخيف. وذلك كما تترك طفلك المعاند الذي يأبى أن يسير معك، في وسط الطريق وحده يواجه مصيره فريدا لا يجد منك سنداً. وكثيراً ما يفلح هذا الأسلوب من التهديد!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في المسلك الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسلكه إرشاد حكيم للعصاة وإيئاس لهم من أن يكون معهم، بل فيه دعوة إلى الاقتداء به في عمله، وفيه إشارة إلى فساد أعمالهم، والمفسد إذا رأى عمل المصلح تأثر بعمله، بل إن ذلك أشد تأثيرا من قوله وأفعل في النفس وأدعى للتأمل، واتجاه النفس إلى ما في ثناياها، وربما اهتدت، وأنها لو فرض أمرها إليها قد يكون الخوف فيها، وأنه إذا داخل الجاحد الخوف من مغيب عنه سار في طريق الهداية. إن هؤلاء المشركين عقولهم غائبة عن الحق سائرة في الضلال غافلة عن دعوة الداعي إلى النور.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولعل هذا الأسلوب يمثِّل الأسلوب الواقعيّ الذي يواجه به كل صاحب فكر حقّ، أصحاب فكر الباطل، فيشعر معه بالطمأنينة والثقة والتخفُّف من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، إذا أدّى ما عليه من واجب في ما طرحه من أفكار وما مارسه من وسائل الهداية، سواء كان هؤلاء من ذوي قرباه، أو من أصدقائه، أو من الناس البعيدين عنه، فلا يشعر بعقدة الذنب أمامهم، ولا يعيش انفعال المشاعر من خلالهم، لأن الحياة رسالةٌ وإِرادةٌ وقدرة، فإذا بلَّغ رسالته بالوسائل الملائمة، وأكّد إرادته بالمواقف القويَّة، وأعطى كل طاقته، ولم يبق عنده شيءٌ مما يقدّمه أو يعطيه، فقد قام بواجبه، بكل صدقٍ وإخلاص، وفي ذلك الرضا كل الرضا، والراحة كل الراحة، في ما يريده الله له، وفي ما يطلبه منه.