وهنا يرد عليهم ذو القرنين - كما حكى القرآن عنه بما يدل على قوة إيمانه وحرصه على إحقاق الحق وإبطال الباطل . فيقول { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ .
أى : قال ذو القرنين لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا : إن ما بسطه الله - تعالى - لى من الرزق والمال والقوة . . خير من خرجكم ومالكم الذى تريدون أن تجعلوه لى فى إقامة السد بينكم وبين يأجوج ومأجوج ، فوفروا عليكم أموالكم ، وقفوا إلى جانبى { فأعينونى } بسواعدكم وبآلات البناء { بقوة } أى : بكل ما أتقوى به على المقصود وهو بناء السد ، لكى { أجعل بينكم } وبين يأجوج ومأجوج { ردما } .
أى : حاجزاً حصينا . وجدارا متينا ، يحول بينكم وبينهم .
والردم : الشئ الذى يوضع بعضه فوق بعض حتى يتصل ويتلاصق . يقال : ثوب مردم ، أى : فيه رقاع فوق رقاع . وسحاب مردم ، أى : متكاتف بعضه فوق بعض . ويقال : ردمت الحفرة ، إذا وضعت فيها من الحجارة والتراب وغيرهما ما يسويها بالأرض .
قال ابن عباس : الردم أشد الحجاب .
وجملة { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } جواب الأمر فى قوله : { فأعينونى بقوة } .
فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير : { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي : إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين{[18498]} خير لي من الذي تجمعونه ، كما قال سليمان عليه السلام : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] وهكذا قال ذو القرنين : الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ، ولكن ساعدوني { بِقُوَّةٍ } أي : بعملكم وآلات البناء ، { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } .
{ قال ما مكّني فيه ربي خير } ما جعلني فيه مكينا من المال والملك خير مما تبذلون لي من الخراج ولا حاجة بي إليه . وقرأ ابن كثير " مكنني " على الأصل . { فأعينوني بقوة } أي بقوة فعلة أو بما أتقوى به من الآلات . { أجعل بينكم وبينهم ردماً } حاجزا حصينا وهو أكبر من السد من قولهم ثوب مردم إذا كان رقاعا فوق رقاع .
وقوله { قال ما مكني } الآية ، المعنى قال لهم ذو القرنين : ما بسطه الله لي من القدرة والملك ، خير من خرجكم وأموالكم ، ولكن أعينوني بقوة الأبدان ، ويعمل منكم بالأيدي ، وقرأ ابن كثير «ما مكنني » بنونين ، وقرأ الباقون «ما مكني » بإدغام النون الأولى في الثانية ، وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين ، فإنه «تهدما » في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه ، فإن القوم ، لو جمعوا له خرجاً لم يمنعه منهم أحد ، ولوكلوه إلى البنيان ، ومعونتهم بالقوة أجمل به ، وأمر يطاول مدة العمل ، وربما أربى على المخرج ، و «الردم » أبلغ من السد ، إذ السد كل ما سد به ، و «الردم » وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ، ومنه ردم ثوبه : إذا رقعه برقاع متكاثفة ، بعضها فوق بعض ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
هل غادر الشعراء من متردم . . . {[7896]} أي من قول يركب بعضه على بعض .
قوله { ما مكَّنّي فِيه ربِّي خيرٌ } أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه أو خير من السد الذي سألتموه ، أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم ، فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تحيلوا فتسلقوا الجبال ودخلوا بلاد الصين ، فأراد أن يبني سُوراً ممتداً على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذّر عليهم تسلق تلك الجبال ، ولذلك سمّاه رَدْماً .
والردم : البناء المردّم . شبه بالثوب المردّم المؤتلف من رقاع فوق رقاع ، أي سُداً مضاعفاً . ولعله بَنى جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتُراب المخلوط ليتعذر نقبه .
ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم : { فأعينوني بقوة } أي بقوّة الأبدان ، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضر عنهم .
وقد بنى ذو القرنين وهو ( تْسين شي هوانق تِي ) سلطان الصين هذا الردم بناء عجيباً في القرن الثالث قبل المسيح وكان يعمل فيه ملايين من الخَدمَة ، فجعل طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة كيلومتر . وبعضهم يقول : ألفا ومائتي ميل ، وذلك بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل ، وجعل مبدأه عند البحر ، أي البحر الأصفر شرقي مدينة ( بيكنغ ) عاصمة الصين في خط تجاه مدينة ( مُكْدن ) الشهيرة . وذلك عند عرض 4 ، 540 شمالاً ، وطول 02 ، 512 شرقاً ، وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول 50 ، 5111 شرقاً ، والعرض 50 ، 539 شمالاً ، وأيضاً في 375 عرض شمالي . ومن هنالك ينعطف إلى جهة الشمال الغربي وينتهي بقرب 599 طولاً شرقياً و540 عرضاً شمالياً .
وهو مبني بالحجارة والآجر وبعضه من الطين فقط .
وسمكه عند أسفله نحو 25 قدماً وعند أعلاه نحو 15 قدماً وارتفاعه يتراوح بين 15 إلى 20 قدماً ، وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو 40 قدماً .
وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع ، ولكنه بقي علامة على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية فهو فاصل بين الصين ومنغوليا ، وهو يخترق جبال ( يابلوني ) التي هي حدود طبيعية بين الصين وبلاد منغوليا فمنتهى طرَفه إلى الشمال الغربي لصحراء ( قوبي ) .
وقرأ الجمهور { مَكَّنّي } بنون مدغمة ، وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} ذو القرنين: {ما مكني فيه ربي خير}، يقول: ما أعطاني ربي من الخير، خير من جعلكم، يعني: أعطيتكم،
{فأعينوني بقوة}، يعني: بعدد رجال...
{أجعل بينكم وبينهم ردما}، لا يصلون إليكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال ذو القرنين: الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي، ووطأه لي، وقوّاني عليه، خير من جُعلكم، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني منكم بقوّة، أعينوني بفَعلة وصناع يُحسنون البناء والعمل... وقال ما مكني، فأدغم إحدى النونين في الأخرى، وإنما هو ما مكنني فيه. وقوله:"أجعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما" يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج "ردما". والردم: حاجز الحائط والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال ما مكني فيه ربي خير} على تأويل، يكون قوله: {ما مكني فيه ربي} من النبوة {خير} لأنه يقول: إنه كان نبيا حين قال {إنا مكنا له في الأرض}. وعلى قول غيره يكون {ما مكني فيه ربي} من الملك والسبب الذي أعطاني، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها {خير} مما تذكرون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فأجابَهم إلى سُؤْلِهم، وحقَّق لهم بُغْيَتَهم، ولم يأخذ منهم ما ضَمِنوا له من الجِباية، لمَّا رأى أنَّ من الواجبِ عليه حَقَّ الحمايةِ على حسب المكنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ} ما جَعَلني فيه مَكيناً مِن كثرة المالِ واليَسارِ...
{رَدْمًا} حاجزاً حَصِيناً موثقاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال لهم ذو القرنين: ما بَسَطَه الله لي من القدرة والملك، خيرٌ من خَرْجكم وأموالِكم، ولكن أعينوني بقُوّة الأَبْدانِ... وهذا من تأييد الله تعالى لذي القرنين، فإنه اهتدى في هذه المحاورة إلى الأنفَع الأنزَه، فإنّ القوم، لو جَمعوا له خَرْجاً لم يمنعه يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلوه إلى البُنْيان، ومعونتُهم بالقوة أَجْمَلُ به، وأمرٌ يطاوِل مدّةَ العملِ، وربما أَرْبَى على المخرج...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولَمّا كان لِمَكِنَتِهِ حالتان: إحداهما ظاهرةٌ، وهي ما شُوهِدَ مِن فِعلِه بعد وقوعه، وباطنةٌ ولا يقع أحدٌ عليها بحَدْسٍ ولا تَوَهُّمٍ، لأنها مِمّا لم يُؤْلَفْ مِثلُه، فلا يقع المُتَوَسِّمُ عليه، قرأ ابنُ كثير بإظهار النون في {مَكَّنَنِي} وغيرُه بالإدغام، إشارةً إليهما. ولَمّا كان النّظرُ إلى ما يَقع المَكِنَةُ فيه أكثرَ، قَدَّمَ ضميرَه فقال: {فيه رَبِّي} أي المُحْسِنُ إليّ بما تَرَوْنَ من الأموالِ والرّجالِ، والفهمِ في إتقان الأمور، والتوصّلِ إلى جميع المُمكِن للمخلوق... {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}... أتَقَوَّى بها في فِعل ذلك، فإنّ أهلَ البلادِ أَخْبَرُ بما يَصْلُحُ في هذا العمل من بلادهم و ما مَعِي إنما هو للقتال وما يكونُ مِن أسبابه، لا لِمِثْلِ هذا {أَجْعَلْ بَيْنَكم} أي بينَ ما تَخْتَصُّون به {وبينَهم رَدْماً}... بعضُه فوقَ بعضٍ، مع التّلاصُق المُتلاحِم المُوجِبِ لأنْ لا يَمِيز بعضُه من بعضٍ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال؛ وتطوع بإقامة السد؛ ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين؛ فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: (فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله {ما مكَّنّي فِيه ربِّي خيرٌ} أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه أو خير من السد الذي سألتموه، أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم...
والردم: البناء المردّم. شبه بالثوب المردّم المؤتلف من رقاع فوق رقاع، أي سُداً مضاعفاً. ولعله بَنى جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتُراب المخلوط ليتعذر نقبه.
ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم: {فأعينوني بقوة} أي بقوّة الأبدان، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضر عنهم...
ونفهم من الآية أن المَعونة مِن المُمَكَّنِ في الأرض المَالِكِ للشيء يجب أن تكون حِسْبَةً لله، وأنْ تُعِينَ مَعونةً لا تُحْوِجُ الذي تُعِينُه إلى أن تُعِينه كلَّ وقتٍ، بل أَعِنْهُ إعانةً تُغْنيه أن يَحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأنْ تُعَلِّمَه أن يَعمَل بنفسه بدلَ أن تُعطيَه مثلاً مالاً يُنفِقُه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً.. ولَمّا كان ذو القرنين مُمَكَّناً في الأرض، وفي يده الكثيرُ من الخيرات والأموال، فهو ليس في حاجة إلى مالٍ بل إلى الطاقة البشرية العاملة، فقال: {فأعينوني بِقُوَّةٍ}: أي: قُوّةٍ وطاقةٍ بشريّةٍ قويّةٍ مُخْلِصةٍ...
{أَجْعَلْ بَيْنَكم وبينَهم رَدْماً}: ولم يقل: سدّاً؛ لأن السّدّ الأَصَمَّ يَعِيبُه أنه إذا حَصَلَتْ رَجَّةٌ مثلاً في ناحية منه تُرَجُّ الناحيةُ الأخرى؛ لذلك أقام لهم رَدْماً أي: يبني حائطاً من الأمام وآخَرَ من الخلف، ثم يَجعلُ بينَهما رَدْماً من التُّراب ليكون السّدُّ مَرِناً لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هَزّةٌ أرضيّةٌ مثلاً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} على بنائه وتحضير الوسائل الممكنة لذلك، من مواد العمل وجهد العمال...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كلمة «ردم» على وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار، إِلاّ أنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شملَ كل سد، بل وشمل حتى ترقيع الملابس. يعتقد بعض المفسّرين أنَّ كلمة «ردم» تقال للسد القوي، ووفقاً لهذا التّفسير فإِنَّ ذا القرنين قد وعدهم بأكثر ممّا كانوا ينتظرونه.