المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

2 - غَلَبت فارس الروم في أقرب الأرض من العرب ، وهي أطراف الشام ، وهم بعد انهزامهم سيغلبون فارس .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .

قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .

وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .

فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .

وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .

أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .

قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .

وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .

وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .

أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .

وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .

أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .

والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .

وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .

{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .

قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .

وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .

ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم : بنو الأصفر . وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح ، أبناء {[22746]} عم الترك . وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها : المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهم الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان{[22747]} الروم على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له : قيصر . فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس ، وأمه مريم الهيلانية الشدقانية{[22748]} من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا ، فتابعها - يقال : تَقِيَّة - واجتمعت به النصارى ، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا [ كثيرًا ]{[22749]} منتشرا متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم{[22750]} ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغَيَّروا دين المسيح ، عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه . وفصلوا إلى المشرق{[22751]} واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير . واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس{[22752]} والغطاس ، وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة . وابتدعوا الرهبانية . وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه{[22753]} اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاثة{[22754]} محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك .

ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة " . {[22755]} والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده ، حتى كان آخرهم هرقل . وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا ، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي ، وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف . وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رياسة العجم وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار . فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية . فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من{[22756]} ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك . فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ، ويشترط عليه ما شاء . فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا{[22757]} ، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة . فطاوعه قيصر ، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره ، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه ، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية ، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته ، في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار ، إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري . فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام . فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط ، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة ، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن ، وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها ، وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده ، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخُذه . فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد{[22758]} في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك . فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون ، التي لا سبيل{[22759]} لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها ، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية . وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه {[22760]} حائرين لا يدرون ماذا يصنعون . لم يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم ، وسبوا ذراريهم ونساءهم . فكان هذا من غَلب الروم فارسَ ، وكان ذلك بعد تسع{[22761]} سنين من غلب الفرس للروم{[22762]} .

وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى ، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز .

وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله{[22763]} أعلم .

ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين ، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع . وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ، وابن جرير وغيرهما ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي ، عن الزهري ، عن عبُيَد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة{[22764]} { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟ " ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[22765]} .

وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك{[22766]} .


[22746]:- في أ: "أتباع".
[22747]:- في ف: "وكان".
[22748]:- في ت: "القندقانية" وفي ف: "الغندقانية".
[22749]:- زيادة من ت، ف، أ.
[22750]:- في ت: "جماعته".
[22751]:- في ت، ف، أ: "وصلوا إلى الشرق"
[22752]:- في ف، أ: "والقرابين".
[22753]:- في أ: "زمانه".
[22754]:- في ف: "بثلاث".
[22755]:- سنن أبي داود برقم (4596) وابن ماجه في السنن برقم (3992) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناد عوف بن مالك فيه مقال، وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق. وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه، وليس له عندي سوى هذا الحديث قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات"
[22756]:- في ت: "في".
[22757]:- في ت: "الأرض".
[22758]:- في أ: "فجد".
[22759]:- في أ: "لا مسلك".
[22760]:- في ت، ف، أ: "وجنوده".
[22761]:- في ت: "ثلاث".
[22762]:- في ت، ف: "من غلب فارس للروم" وفي أ: "من غلب فارس الروم".
[22763]:- في ف: "والله".
[22764]:- في ت: "مبايعته".
[22765]:- سنن الترمذي برقم (3191) وتفسير الطبري (21/12).
[22766]:- تفسير الطبري (21/16).

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقوله : فِي أدْنَى الأرْضِ قد ذكرت قول بعضهم فيما تقدّم قبل ، وأذكر قول من لم يذكر قوله .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله في أدنى الأرْضِ يقول : في طرف الشام .

ومعنى قوله أدنى : أقرب ، وهو أفعل من الدنوّ والقرب . وإنما معناه : في أدنى الأرض من فارس ، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله فِي أدْنَى الأرْضِ عليه منه . وقوله : وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس . وقوله : منْ بَعْدِ غَلَبهمْ مصدر من قول القائل : غلبته غلبة ، فحذفت الهاء من الغلبة . وقيل : من بعد غلبهم ، ولم يقل : من بعد غلبتهم للإضافة ، كما حذفت من قوله : وَإقامِ الصّلاةِ للإضافة . وإنما الكلام : وإقامة الصلاة .

وأما قوله : سَيَغْلِبُونَ فإن القرّاء أجمعين على فتح الياء فيها ، والواجب على قراءة من قرأ : «الم غَلَبَنِ الرّومُ » بفتح الغين ، أن يقرأ قوله : «سَيُغْلَبُونَ » بضم الياء ، فيكون معناه : وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصحّ معنى الكلام ، وإلاّ لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء ، لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون ، وذلك إفساد أحد الخبرين بالاَخر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقرأ الجمهور «غُلبت » بضم الغين وقالوا معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد : في الجزيرة وهو موضع بين العراق والشام ، وقال عكرمة : وهي بين بلاد العرب والشام ، وقال مقاتل : بالأردن وفلسطين ، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم { سيغلبون في بضع سنين } وتكون الدولة لهم في الحرب ، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر «غَلَبت » الروم بفتح الغين واللام ، وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم { سيغلبون } أيضاً { في بضع سنين } ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم ، والرواية الأولى والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على «سيَغلبون » أنه بفتح الياء{[1]} يريد به الروم ، وروي عن ابن عمرو أنه قرأ أيضاً «سيُغلبون » بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به ، و { أدنى الأرض } معناه أقرب الأرض ، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من { أدنى الأرض } بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله : [ الطويل ]

تنورتها من أذرعات وأهلها . . . بيثرب أدنى دارها نظر عال{[2]}

وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي { أدنى } بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي { أدنى } إلى أرض الروم ، قال أبو حاتم : وقرىء «أداني الأرض »{[3]} ، وقرأ جمهور الناس «غلَبهم » بفتح اللام كما يقال أحلب حلباً لك شطره{[4]} ، وقرأ ابن عمر بسكونها وهما مصدران بمعنى واحد وأضيف إلى المفعول{[5]} ، وروي في قصص هذه الآية عن ابن عباس وغيره أن الكفار لما فرحوا بمكة بغلب الروم بشر الله نبيه والمؤمنين بأن الروم { سيغلبون في بضع سنين } أي من الثلاثة إلى التسعة على مشهور قول اللغويين . كأنه تبضيع العشرة أي تقطيعها وقال أبو عبيدة : من الثلاث إلى الخمس ، وقوله مردود ، فلما بشرهم بذلك خرج أبو بكر الصديق إلى المسجد فقال لهم : أسركم إن غلبت الروم فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم { سيغلبون في بضع سنين } فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب تعال يا أبا فصيل يعرضون بكنيته بالبكر{[6]} فلنتناخب ، أي نتراهن ، في ذلك فراهنهم أبو بكر قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار وجعل الرهن خمس قلائص ، والأجل ثلاث سنين ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له «إن البضع إلى التسعة ولكن زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل »

، ففعل أبو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم في أثناء الأجل ، فروي عن أبي سعيد الخدري أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية وأن الخبر بذلك وصل يوم بيعة الرضوان ، روي نحوه عن قتادة ، وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين ، وذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب وكون المشركين من قريش على ضد ذلك إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، والفرس أهل الأوثان أو نحوه من عبادة النار ككفار قريش والعرب .

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه{[7]} . و { سنين } ، يجمع كجمع من يعقل عوضاً من النقص الذي في واحده لأن أصل سنة سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على جمعه خارج عن قياسه ونمطه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وهم} يعني الروم {من بعد غلبهم سيغلبون} أهل فارس...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"فِي أدْنَى الأرْضِ"... عن ابن عباس، قوله "في أدنى الأرْضِ "يقول: في طرف الشام.

ومعنى قوله "أدنى": أقرب، وهو أفعل من الدنوّ والقرب. وإنما معناه: في أدنى الأرض من فارس، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله "فِي أدْنَى الأرْضِ "عليه منه.

وقوله: "وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ" يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{فِي أَدْنَى الأَرْضِ} يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وقوله تعالى: {وهم من بعد غلبهم} أية فائدة في ذكره مع أن قوله: {سيغلبون} بعد قوله: {غلبت الروم} لا يكون إلا من بعد الغلبة؟ فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله، لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل على أن ذلك بأمر الله، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم، وإنما ذلك بأمر الله تعالى.

{في أدنى الأرض} لبيان شدة ضعفهم، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{في أدنى الأرض} أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب، وهي في أطراف الشام، وفي تعيين مكان الغلب -على هذا الوجه- بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان. وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين: اتركوا هذا السرور الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم...

ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم من القهر بتبديلهم، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم ونسخ بملتهم الملل، وأدالهم على جميع الدول، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور العقلاء: {وهم} أي الروم، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم: {من بعد غلبهم} الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول {سيغلبون} فارساً، فأكد وعده بالسين -وهو غني عن التأكيد- جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... هذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية. وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية {في أدْنَى الأرْض} أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.

فالتعريف في {الأرْض} للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق {أدنى} لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.

وقوله {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.

و {غَلَبِهم} مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول {سيغلبون} للعلم بأن تقديره: سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوماً آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرسَ الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.

وفائدة ذكر {من بعد غلبهم} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.