{ فإذا سويته } أى : سويت خلق هذا البشر ، وكملت أجزاءه ، وجعلته في أحسن تقويم . . .
{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } أى : وضعت فيه ما به حياته وحركته وهو الروح ، الذي لا يعلم حقيقته أحد سواى .
قال القرطبى : قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } النفخ إجراء الريح في الشئ . والروح جسم لطيف ، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم . وحقيقته إضافة خلق إلى خالق ، فالروح خلق من خلقه أضافه - سبحانه - إلى نفسه تشريفاً وتكريماً ، كقوله ، أرضى وسمائى وبيتى وناقة الله وشهر الله . . . .
وقوله { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } أمر منه - سبحانه - للملائكة بالسجود لآدم .
أى : فإذا سويت خلقه ، وأفضت عليه ما به حياته ، فاسقطوا وخروا له ساجدين ، سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة ، فإن سجود العبادة لى وحدى .
وقال - سبحانه - { فقعوا . . } بفاء التعقيب ، للإشعار بأن سجودهم له واجب عليهم عقب التسوية والنفخ من غير إبطاء أو تأخير .
وهذا نوع من تكريم الله - تعالى - لعبده آدم - عليه السلام - ، وله - سبحانه - أن يكرم بعض عباده بما يشاء ، وكيف شاء .
( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي )
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم ، منذ بدء التكوين ، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين .
ومتى كان في نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم ?
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين . .
لقد كان خلق الشيطان - من قبل - من نار السموم . فهو سابق إذن للإنسان في الخلق . هذا ما نعلمه . أما كيف هو وكيف كان خلقه . فذلك شأن آخر . ليس لنا أن نخوض فيه . إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم . ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار . والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم . ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار . وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار !
ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ؛ ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء ؛ ومنحته خصائصه الإنسانية ، التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية ؛ فسلك طريقا غير طريقها منذ الابتداء . بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه !
هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى ؛ وتجعله أهلا للاتصال بالله ، وللتلقي عنه ؛ ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول . والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان ، ووراء طاقة العضلات والحواس ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان .
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه ، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته : من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات . ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات . . هذا مع أن هذا الكائن " مركب " منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه . طبيعته طبيعة " المركب " لا طبيعة " المخلوط " أو الممزوج ! . . " ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين . . إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه ، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته . إنه لا يكون طينا خالصا في لحظة ، ولا يكون روحا خالصا في لحظة ؛ ولا يتصرف تصرفا واحدا إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال !
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن يبلغه ، وهو الكمال البشري المقدر له . فليس مطلوبا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكا أو ليكون حيوانا . وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان . والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة ، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص .
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة . . كلاهما يخرج على سواء فطرته ؛ ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له . وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل . وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير .
من أجل هذا أنكر الرسول [ ص ] على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء ، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر ، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام . أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها - وقال : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك ؛ وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر . إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات ، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى . فكل اعتداء يقابله تعطيل . وكل طغيان يقابله تدمير .
والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله . والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان .
والذي يريد قتل النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد . ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان . . والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية ، كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء . . كلاهما عدو " للإنسان " يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان !
إن الإنسان حيوان وزيادة . . فله مثل مطالب الحيوان ، وله ما يقابل هذه الزيادة . وليست هذه المطالب دون هذه هي " المطالب الأساسية " كما يزعم أعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية " العلمية " .
هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان ، كما يقررها القرآن . نمر بها سراعا ، حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى ، راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها :
لقد قال الله للملائكة : " إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . . "
وقد كان ما قاله الله . فقوله - تعالى - إرادة . وتوجه الإرادة ينشيء الخلق المراد . ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني . فالجدل على هذا النحو عبث عقلي . بل عبث بالعقل ذاته ، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم . وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده ، وإقحام له في غير ميدانه ، ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان ، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية ، وخطأ في المنهج من الأساس . إنه يقول : كيف يتلبس الخالد بالفاني ، وكيف يتلبس الأزلي بالحادث ? ثم ينكر أو يثبت ويعلل ! بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في الموضوع . لأن الله يقول : إن هذا قد كان . ولا يقول : كيف كان . فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه . وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده - غير التسليم بالنص - لأنه لا يملك وسائل الحكم . فهو حادث . والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته ، ولا على الأزلي في خلقه للحادث . وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية - وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره . يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون .
( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) . .
كما هي طبيعة هذا الخلق - الملائكة - الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق .
التسوية : تعديل ذات الشيء . وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح .
والنفخ : حقيقته إخراج الهواء مضغوطاً بين الشفتين مضمومتين كالصفير ، واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دَفعة واحدة ، وليس ثَمة نفخ ولا منفوخ .
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوّة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكوناً سريعاً دفعياً وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها .
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق . وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها ، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعاً لطباع الأمزجة أو لإِلفِ العادة ولا يُؤْبَه في علم الله تعالى . وهذا هو ضابط وصف القذارة والنّزاهة عند البشر .
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه ، ومنه تخلقت أفاضل البشر . وكذلك المسك طَيّب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشّم وما هو إلا غُدة من خارجات بعض أنواع الغزال ، قال تعالى : { وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسلَهُ من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } [ سورة السجدة : 7 9 ] .
وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام . وفي الحديث « لَخلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك » . وفيه لا يُكْلَم أحد في سبيل الله ؛ واللّهُ أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودَمه يَشْخُب اللّونُ لونُ الدم والريح ريح المسك .
ومعنى { فقعوا له ساجدين } أُسقُطوا له ساجدين ، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع ، وهو الوقوع لقصد التعظيم ، كقوله تعالى : { وخرّوا له سجداً } [ سورة يوسف : 100 ] . وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديراً لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته .
وأمر الملائكة السجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه :
أحدها : أن ذلك المنع لسدّ ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرّق ذلك إليهم .
وثانيها : أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح ، فجاءت بما لم تجىء به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ، ولم يكن السجود من قبل محظوراً فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليهم السلام وكانوا أهل إيمان .
وثالثها : أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي ، و لا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإذا سويته}، يعني: سويت خلقه، {ونفخت فيه}، يعني: آدم، {من روحي فقعوا له ساجدين}، يقول: فاسجدوا لآدم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 28]
و اذكر يا محمد إذْ "قالَ رَبّكَ للْمَلائِكَة إنّي خالِقٌ بَشَرا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فإذَا سَوّيْتُهُ "يقول: فإذا صوّرته فعدّلت صورته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فصار بشرا حيّا فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فإذا سويته" معناه: سويت صورته الإنسانية...
"ونفخت فيه من روحي" فالنفخ الإجراء لريح في الشيء باعتماد.. وأضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له، وهي إضافة الملك، لما شرفه وكرمه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
أما التسوية: فهي عبارة عن فعل في المحل المقابل للروح؛ وهو الطين في حق آدم صلى الله عليه وسلم، والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج والتردد في أطوار الخلقة إلى الغاية حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية، فيستعد لقبول الروح وإمساكها كاستعداد الفتيلة بعد شرب الدهن لقبول النار وإمساكها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَوَّيْتُهُ}: عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها.
ومعنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} وأحييته...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وسويته: أكملت خلقه، والتسوية عبارة عن الإتقان، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ساجدين} أي: اسجدوا له سجود من كان في مبادرته به وسهولة انقياده كأنه وقع من غير اختياره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم، منذ بدء التكوين، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين. كيف؟.. ومتى كان في نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم؟ وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين.. لقد كان خلق الشيطان -من قبل- من نار السموم. فهو سابق إذن للإنسان في الخلق. هذا ما نعلمه. أما كيف هو وكيف كان خلقه. فذلك شأن آخر. ليس لنا أن نخوض فيه. إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم. ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار. والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم. ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار. وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار! ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال؛ ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء؛ ومنحته خصائصه الإنسانية، التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية؛ فسلك طريقا غير طريقها منذ الابتداء. بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه! هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى؛ وتجعله أهلا للاتصال بالله، وللتلقي عنه؛ ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان. ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته: من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات. ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات.. هذا مع أن هذا الكائن "مركب "منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه. طبيعته طبيعة "المركب "لا طبيعة "المخلوط" أو الممزوج!.. "ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين.. إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته. إنه لا يكون طينا خالصا في لحظة، ولا يكون روحا خالصا في لحظة؛ ولا يتصرف تصرفا واحدا إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال! والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوبا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكا أو ليكون حيوانا. وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان. والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص. والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة.. كلاهما يخرج على سواء فطرته؛ ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له. وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير. من أجل هذا أنكر الرسول [صلى الله عليه وسلم] على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة -رضي الله عنها- وقال:"فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظاما بشريا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير. والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله. والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان. والذي يريد قتل النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد. ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان.. والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية، كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء.. كلاهما عدو "للإنسان" يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان! إن الإنسان حيوان وزيادة.. فله مثل مطالب الحيوان، وله ما يقابل هذه الزيادة. وليست هذه المطالب دون هذه هي "المطالب الأساسية" كما يزعم أعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية "العلمية". هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان، كما يقررها القرآن. نمر بها سراعا، حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى، راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها: لقد قال الله للملائكة:"إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.. "وقد كان ما قاله الله. فقوله -تعالى- إرادة. وتوجه الإرادة ينشئ الخلق المراد. ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني. فالجدل على هذا النحو عبث عقلي. بل عبث بالعقل ذاته، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم. وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحام له في غير ميدانه، ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية، وخطأ في المنهج من الأساس. إنه يقول: كيف يتلبس الخالد بالفاني، وكيف يتلبس الأزلي بالحادث؟ ثم ينكر أو يثبت ويعلل! بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في الموضوع. لأن الله يقول: إن هذا قد كان. ولا يقول: كيف كان. فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه. وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده -غير التسليم بالنص- لأنه لا يملك وسائل الحكم. فهو حادث. والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته، ولا على الأزلي في خلقه للحادث. وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية -وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره. يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون. فلننظر بعد ذلك ماذا كان: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون).. كما هي طبيعة هذا الخلق- الملائكة -الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التسوية: تعديل ذات الشيء. وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح.
...وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعاً لطباع الأمزجة أو لإِلفِ العادة ولا يُؤْبَه في علم الله تعالى. وهذا هو ضابط وصف القذارة والنّزاهة عند البشر.
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه، ومنه تخلقت أفاضل البشر. وكذلك المسك طَيّب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشّم وما هو إلا غُدة من خارجات بعض أنواع الغزال، قال تعالى: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسلَهُ من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون} [سورة السجدة: 7 9]. وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام. وفي الحديث « لَخلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك». وفيه لا يُكْلَم أحد في سبيل الله؛ واللّهُ أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودَمه يَشْخُب اللّونُ لونُ الدم والريح ريح المسك.
ومعنى {فقعوا له ساجدين} أُسقُطوا له ساجدين، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع، وهو الوقوع لقصد التعظيم، كقوله تعالى: {وخرّوا له سجداً} [سورة يوسف: 100]. وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم تقديراً لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته. وأمر الملائكة السجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه: أحدها: أن ذلك المنع لسدّ ذريعة الإشراك والملائكة معصومون من تطرّق ذلك إليهم.
وثانيها: أن شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح، فجاءت بما لم تجئ به الشرائع السالفة لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك، ولم يكن السجود من قبل محظوراً فقد سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف عليهم السلام وكانوا أهل إيمان. وثالثها: أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي، و لا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا.
والتسوية تعني جعل الشيء صالحاً للمهمة التي تراد له...وقد اختلف العلماء في تعريف الروح، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} (سورة الإسراء 85).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} لأن هذا المخلوق يتميز بصفات تجعله في موقعٍ متقدمٍ عن غيره من الموجودات، لحمله رسالاتي، وقيامه بعبادتي، وإدارته شؤون بناء الحياة على الأرض خلافة لي، وتحكيمه الإرادة القويّة في عملية الاختيار بين الخير والشر في عملية المواجهة والصراع وغير ذلك من الأمور التي تجعل منه مخلوقاً مميّزاً، ما يفرض على الملائكة أن يسجدوا له، تحيّةً لله وخضوعاً، أو يسجدوا لآدم، تعبيراً عن خضوعهم لما يريد الله أن يخدموا به مصالحه التي أوكل الله إليهم أمرها كما يحتمل بعض المفسرين. وعلى كل حالٍ، فإنه أمر إلهيٌّ لا بد من إطاعته، كأيّ أمرٍ آخر، وليس للملائكة الاعتراض، أو السؤال عما لا يريد الله أن يعرّفهم به. وهكذا وقف الملائكة وقفة الخضوع لله...