والفاء الأولى في قوله - تعالى - : { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير } للإفصاح ، والثانية للسببية ، والسُّحقُ : البُعد ، يقال : سَحُق - ككَرم وعَلِم - سُحقا ، أي بَعُدَ بُعْداً ، وفلان أسحقه الله ، أي : أبعده عن رحمته ، وهو مصدر ناب عن فعله فى الدعاء ، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر ، أي : ألزمهم الله سحقا ، أو منصوب على المصدرية ، أي : فسحقهم الله سحقا .
أي : إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم ، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم ، وأن الله - تعالى - ما ظلمهم ، وأن ندمهم لن ينفعهم في هذا اليوم . . بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - وبخلودهم في نار السعير .
واللام في قوله { لأَصْحَابِ } للتبين ، كما في قولهم : سَقياً لك .
فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم ، وإصرارهم عليه حتى الممات ، وفي الحديث الشريف : " لن يدخل أحد النار ، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة " وفي حديث آخر : " لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم " .
( فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ) . .
والسحق البعد . وهو دعاء عليهم من الله بعد اعترافهم بذنبهم في الموقف الذي لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بوقوعه . والدعاء من الله قضاء . فهم مبعدون من رحمته . لا رجاء لهم في مغفرة ، ولا إقالة لهم من عذاب . وهم أصحاب السعير الملازمون له . ويا لها من صحبة ! وياله من مصير !
وهذا العذاب ، عذاب السعير ، في جهنم التي تشهق بأنفاسها وهي تفور ، عذاب شديد مروع حقا . والله لا يظلم أحدا . ونحسب - والله أعلم - أن النفس التي تكفر بربها - وقد أودع فطرتها حقيقة الإيمان ودليله – هي نفس فرغت من كل خير . كما فرغت من كل صفة تجعل لها اعتبارا في الوجود ، فهي كالحجر الذي توقد به جهنم . وقد انتهت إلى نكسة وارتكاس مكانها هذه النار ، إلى غير نجاة منها ولا فرار !
والنفس التي تكفر بالله في الأرض تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه ، حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة شنيعة ، صورة منكرة جهنمية نكيرة . صورة لا يماثلها شيء في هذا الكون في بشاعتها ومسخها وشناعتها . فكل شيء روحه مؤمنة ، وكل شيء يسبح بحمد ربه ، وكل شيء فيه هذا الخير ، وفيه هذه الوشيجة التي تشده إلى محور الوجود . . ما عدا هذه النفوس الشاردة المفلتة من أواصر الوجود ، الآبدة الشريرة ، الجاسية الممسوخة النفور . فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه ، وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود ? إنها تنتهي إلى جهنم المتغيظة المتلمظة ، الحارقة ، المهدرة لكل معنى ولكل حق ولكل كرامة ؛ بعد أن لم يعد لتلك النفوس معنى ولا حق ولا كرامة !
قال الله تعالى : { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَريّ الطائي قال : أخبرني من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن يهلك الناس حتى يُعذِروا من أنفسهم " {[29108]} وفي حديث آخر : " لا يدخل أحد النار ، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة " {[29109]} .
وقوله : فاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ يقول : فأقرّوا بذنبهم ووحّد الذنب ، وقد أضيف إلى الجمع ، لأن فيه معنى فعل ، فأدّى الواحد عن الجمع ، كما يقال : خرج عطاء الناس وأعطية الناس ، فَسُحْقا لأصحَاب السّعِيرِ ، يقول : فبُعدا لأهل النار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : فَسُحْقا لأصحَابٍ السّعِيرِ يقول : بُعدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن جبير ، فَسُحْقا لأصَحابِ السّعِيرِ ، قال : سُحقا : واد في جهنم .
والقرّاء على تخفيف الحاء من السّحْق ، وهو الصواب عندنا ، لأن الفصيح من كلام العرب ذلك ، ومن العرب من يحرّكها بالضمّ .
الفاء الأولى فصيحة ، والتقدير : إذ قالوا بذلك فقد تبين أنهم اعترفوا هنالك بذنبهم ، أي فهم محقوقون بما هم فيه من العذاب .
والسُحق : اسم مصدر معناه البعد ، وهو هنا نائب عن الإسحاق لأنه دعاء بالإِبعاد فهو مفعول مطلق نائب عن فعله ، أي أسحقهم الله إسحاقاً ، ويجوز أن يراد من هذا الدعاء التعجيب من حالهم كما يقال : قاتله الله ، وويل له ، في مقام التعجب .
والفاء الثانية للتسبب ، أي فهم جديرون بالدعاء عليهم بالإبعاد أو جديرون بالتعجيب من بُعدهم عن الحق ، أو عن رحمة الله تعالى . ويحتمل أيضاً أن يقال لهم يومَ الحساب عقبَ اعترافهم ، تنديماً يزيدهم ألماً في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم .
واللام الداخلة على ( سحقاً ) لام التقوية إن جعل ( سحقاً ) دعاء عليهم بالإِبعاد لأن المصدر فرع في العمل في الفعل ، ويجوز أن يكون اللام لام التبيين لآياته تعلق العامل بمعموله كقولهم : شكراً لك ، فكل من ( سحقاً ) واللام المتعلقة به مستعمل في معنييه .
و { لأصحاب السعير } يعمّ المخاطبين بالقرآن وغيرهم فكان هذا الدعاء بمنزلة التذييل لما فيه من العموم تبعاً للجمل التي قبله .
وقرأ الجمهور { فسحقاً } بسكون الحاء . وقرأه الكسائي وأبو جعفر بضم الحاء وهو لغة فيه وذلك لإتباع ضمة السين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.