اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ} (11)

قوله «بِذنْبِهِمْ » وحَّده ؛ لأنه مصدر في الأصل ، ولم يقصد التنويع بخلاف «بِذُنُوبِهِم » في موضع ؛ ولأنه في معنى الجمع ؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم .

فصل في المراد بالضلال الكبير

قال ابن الخطيب{[57392]} : يحتمل أن يكون المراد من الضَّلال الكبير ، ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالضَّلال الهلاك ، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه .

فصل في الرد على المرجئة

احتجت المرجئةُ بهذه الآية على أنه لا يدخل النارَ إلا الكفار ، قالوا{[57393]} : لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : فكذبنا النذير ، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار ، وأجاب القاضي عنه : بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة ، وكل من يدخل النار مخالف للدليل .

فصل في معرفة الله بعد ورود السمع

واحتج بهذه الآية من قال : إن معرفة الله ، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع ، قالوا : لأنه تعالى إنما عذبهم ؛ لأنه أتاهم النذير ، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا{[57394]} .

قوله : { فَسُحْقاً } . فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المفعول به ، أي : ألزمهم الله سحقاً .

والثاني : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : «أسحقهم الله سحقاً » فناب المصدر عن عامله في الدعاء ، نحو «جَدْعاً له ، وعقراً » فلا يجوز إظهار عامله .

واختلف النحاة : هل هو مصدر لفعل ثلاثي ، أم لفعل رباعي ، فجاء على حذف الزوائد .

فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر «أسْحَقهُ اللَّهُ » أي : أبعده .

قال الفارسي{[57395]} : فكان القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كقوله : [ الوافر ]

4799 - . . . *** وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي{[57396]}

أي : تقديري .

والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه سمع «سَحَقَهُ اللَّهُ » ثلاثياً ؛ ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

4800 - يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً***وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ{[57397]}

والذي يظهر أن الزجاج{[57398]} والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب : أسحقه الله سحقاً .

وقرأ العامة : بضم وسكون .

والكسائي وآخرون{[57399]} : بضمتين .

وهما لغتان ، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف ، و «لأصْحابِ » بيان ك { هَيْتَ لَكَ }[ يوسف : 23 ] ، وسقياً لَكَ .

وقال مكيٌّ{[57400]} : «والرفع يجوز في الكلام على الابتداء » .

أي : لو قيل : «فسحق » جاز ، لا على أنه تلاوة ، بل من حيث الصناعة ، إلاَّ أن ابن عطية قال ما يضعفه ، فإنه قال{[57401]} : «فسحقاً ، نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً ، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه ، كما تقول : سُحْقاً لزيد ، وبُعْداً له ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، فأما ما وقع وثبت ، فالوجه الرفع ، كما قال تعالى { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }[ المطففين : 1 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وغير هذا من الأمثلة » ، انتهى .

فضعف الرفع كما ترى ؛ لأنه لم يقع ، بل هو متوقع في الآخرة .

فصل

قال المفسِّرون{[57402]} : { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير } ، أي : فَبُعْداً لهم من رحمة الله .

وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : هو واد في جهنَّم يقال له : السحق{[57403]} .


[57392]:السابق 30/57.
[57393]:ينظر السابق.
[57394]:السابق نفسه.
[57395]:ينظر: الحجة للقراء السبعة 6/307.
[57396]:عجز بيت ليزيد بن سنان وقيل لغيره وصدره: وإن يبرأ فلم أنفث عليه *** ... ينظر المفضليات (122)، والبحر المحيط 8/295 والقرطبي 18/139، والدر المصون 6/343.
[57397]:ينظر القرطبي 18/139، وروح المعاني 28/14، والبحر 8/295 والدر المصون 6/343.
[57398]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 5/199.
[57399]:ينظر: السبعة 644، والحجة 6/307، وإعراب القراءات 2/379 وحجة القراءات 716، والعنوان 194، وشرح شعلة 605، وإتحاف 2/551.
[57400]:ينظر: المشكل 2/745.
[57401]:ينظر: المحرر الوجيز 5/340.
[57402]:ينظر القرطبي 18/139.
[57403]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/168) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/383) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.