الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ} (11)

وقوله : { بِذَنبِهِمْ } : وحدَه لأنه مصدرٌ في الأصلِ ، ولم يَقْصِدِ التنويعَ بخلافِ " بذنوبهم " في مواضعَ .

قوله : { فَسُحْقاً } فيه وجهان أحدُهما : أنَّه منصوبٌ على المفعولِ به أي : ألزَمَهم اللَّهُ سُحْقاً . والثاني : أنَّه منصوبٌ على المصدرِ تقديرُه : سَحَقَهم اللَّهُ سُحْقاً ، فناب المصدرُ عن عامِله في الدُّعاءِ نحو : جَدْعاً له وعَقْراً ، فلا يجوزُ إظهارُ عامِلِه . / واختلف النحاة : هل هو مصدرٌ لفعلٍ ثلاثيّ أم لفعلٍ رباعي فجاء على حَذْفِ الزوائدِ ؟ فذهب الفارسيُّ والزجَّاجُ إلى أنه مصدرُ أسْحَقَه اللَّهُ أي : أبعَدَه . قال الفارسي : " فكان القياسُ إسْحاقاً ، فجاء المصدرُ على الحَذْفِ كقوله :

فإن أَهْلِكْ فذلك كان قَدْري *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي تقديري . والظاهرُ أنه لا يُحتاج لذلك ؛ لأنه سُمع : سَحَقه اللَّهُ ثلاثياً . وفيه قولُ الشاعر :

يجولُ بأطرافِ البلادِ مُغَرِّباً *** وتَسْحَقُه ريحُ الصَّبا كلَّ مَسْحَقِ

والذي يظهرُ أنَّ الزجَّاج والفارسيَّ إنما قالا ذلك فيمن يقولُ مِن العربِ أَسْحقه الله سُحْقاً .

وقرأ العامَّةُ بضمةٍ وسكونٍ ، والكسائيُّ في آخرَين بضمتين ، وهما لغتان . والأحسنُ أَنْ يكونَ المثقَّلُ أصلاً للخفيفِ . و [ قوله ] " لأصحاب " بيانٌ ك

{ هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] وسَقْياً لك . وقال مكي : " والرفعُ يجوز في الكلامِ على الابتداء " أي : لو قيل : " فَسُحْقٌ " جاز لا على أنه تلاوةٌ ، بل من حيث الصناعةُ . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قد قال ما يُضَعِّفُه ، فإنه قال : " فسُحْقاً نصباً على جهةِ الدعاءِ عليهم ، وجازَ ذلك فيه وهو مِنْ قِبل اللَّهِ تعالى من حيثُ هذا القولُ ، فيهم مستقرٌ أَوَّلاً ، ووجودُه لم يَقَعْ ، ولا يَقَعُ إلاَّ في الآخِرة ، فكأنه لذلك في حَيِّز المتوقَّع الذي يُدَّعَى فيه كما تقول : " سُحْقاً لزيدٍ ، وبُعْداً له " والنصبُ في هذا كلِّه بإضمار فعلٍ ، وأما ما وَقَعَ وثَبَتَ فالوجهُ فيه الرفعُ ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ]

{ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] وغيرُ هذا مِن الأمثلة " انتهى . فضعَّفَ الرفعَ كما ترى لأنه لم يَقَعْ بل هو متوقَّعٌ في الآخرةِ .