ولما كانت هذه الأخلاق تحتاج إلى مجاهدة للنفس . . عقب - سبحانه - على هذه التوجيهات السامية بقوله : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
والضمير فى { يُلَقَّاهَا } يعود إلى تلك الخصال الكريمة السابقة ، التى على رأسها الدفع بالتى هى أحسن .
أى : وما يستطيع القيام بتلك الأخلاق العظيمة التى على رأسها الدعوة إلى الله ومقابلة السيئة بالحسنة . . إلا الذين صبروا على المكاره وعلى الأذى .
وما يستطيعها - أيضا - إلا صاحب الحظ الوافر ، والنصيب الكبير ، من توفيق الله - تعالى - له إلى مكارم الأخلاق .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها قد رسمت للمسلم أحكم الطرق ، وأفضل الوسائل ، التى ترفع درجته عند - خالقه - تعالى - .
ثم قال : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : وما يقبل{[25734]} هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك ، فإنه يشق على النفوس ، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ * وَإِمّا يَنزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وما يُعطَى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره ، والأمور الشاقة وقال : وَما يُلَقّاها ولم يقل : وما يلقاه ، لأن معنى الكلام : وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن .
وقوله : وَما يُلَقّاها إلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ يقول : وما يلقى هذه إلا ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَما يُلَقّاها إلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ : ذو جدّ .
وقيل : إن ذلك الحظّ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الاَية أنه لهؤلاء القوم هو الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يُلَقّاها إلاّ الّذِينَ صَبرُوا . . . الاَية . والحظّ العظيم : الجنة . ذُكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم شاهد ، فعفا عنه ساعة ، ثم إن أبا بكر جاش به الغضب ، فردّ عليه ، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم فاتبعه أبو بكر ، فقال يا رسول الله شتمني الرجل ، فعفوت وصفحت وأنت قاعد ، فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «إنّهُ كانَ يَرُدّ عَنْكَ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةَ ، فَلَمّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ الشّيْطانُ ، فَوَالله ما كُنْتُ لأُجالِسَ الشّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ » .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يُلَقّاها إلاّ الّذِينَ صَبرُوا وَما يُلَقّاها إلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ يقول : الذين أعدّ الله لهم الجنة .
والضمير في قوله : { يلقاها } عائد على هذه الخلق التي يتضمنها قوله : { ادفع بالتي هي أحسن } . وقالت فرقة : المراد : وما يلقى لا إله إلا الله ، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ .
وقوله : { إلا الذين صبروا } مدح بليغ للصبر ، وذلك بينّ للمتأمل ، لأن الصبر للطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها . والحظ العظيم : يحتمل أن يريد من العقل والفضل ، فتكون الآية مدحاً . وروي أن رجلاً شتم أبا بكر الصديق بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بكر ساعة ، ثم جاش بها لغضب فرد على الرجل ، فقام النبي عليه السلام فاتبعه أبو بكر وقال : يا رسول الله قمت حين انتصرت ، فقال إنه كان يرد عنك ملك ، فلما قربت تنتصر ، ذهب الملك وجاء الشيطان ، فما كنت لأجالسه{[10079]} ، ويحتمل أن يريد : { ذو حظ عظيمٍ } من الجنة وثواب الآخرة ، فتكون الآية وعداً ، وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا .
عطف على جملة { ادفع بالتي هي أحسن } [ فصلت : 34 ] ، أو حال من ( التي هي أحسن ) ، وضمير { يُلَقَّاهَآ } عائد إلى ( التي هي أحسن ) باعتبار تعلقها بفعل ( ادْفَعْ ) ، أي بالمعاملة والمدافعة التي هي أحسن ، فأما مطلق الحسنة فقد يحصل لغير الذين صبروا .
وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام ، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلة الصبر وهي في ذاتها خصلة حميدة وثوابها جزيل كما علم من عدة آيات في القرآن ، وحسبك قوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ العصر : 2 ، 3 ] . فالصابر مرتاض بتحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ فيهون عليه ترك الانتقام .
و { يُلقَّاها } يُجعل لاَقِياً لها ، أي كقوله تعالى : { ولقاهم نضرة وسروراً } [ الإنسان : 11 ] ، وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه . وجيء في { يلقاها } بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل ، وجيء في الصلة وهي { الَّذِينَ صَبَرُوا } بالماضي للدلالة على أن الصبر خلُق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى ، ولهذه النكتة عدل عن أن يقال : إلا الصابرون ، لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة . ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تَحْصُل إلا لِذي حظ عظيم .
والحظ : النصيب من الشيء مطلقاً ، وقيل : خاص بالنصيب من خير ، والمراد هنا : نصيب الخير ، بالقرينة أو بدلالة الوضع ، أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل ، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى .
فتحصَّل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن ، وأنه ليس وحده شرطاً فيها بل وراءه شروط أُخر يجمعها قوله : { حَظٍ عظيم } ، أي من الأخلاق الفاضلة ، والصبرُ من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعمّ من الصبر ، وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودُها .
وفي إعادة فعل { ومَا يُلقاها } دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستِتر من صريحه شيء تحتَ العاطف .
وأفاد { ذُو حَظّ عَظِيمٍ } أن الحظ العظيم من الخير سجيتُه وملكته كما اقتضته إضافة { ذو } . وحاصل ما أشار إليه الجملتان أنّ مِثْلَك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهيّن لكل أحد .