وبعد أن بشر - سبحانه - عباده المؤمنين الصادقين بهذا الثواب الحسن ، نهاهم عن الاغترار بما عليه الكافرون من قوة وسطوة ومتاع دنيوى فقال - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } .
يغرنك : من الغرور وهو الاطماع فى أمر محبوب على نية عدم وقوعه ، أو إظهار الأمر المضر فى صورة الأمر النافع ، وهو مشتق من الغرة بكسر الغين - وهى الغفلة - ويقال : رجل غر إذا كان ينخدع لمن خادعه .
والتقلب فى البلاد : التصرف فيها على جهة السيطرة والغلبة ونفوذ الإرادة .
والمتاع : الشىء الذى يتمتع الإنسان به لمدة معينة ، والمعنى : لا يصح أن يخدع أحد بما عليه الكافرون من تقلب فى البلاد ومن تصرفهم فيها تصرف الحاكم المسيطر عليها ، المستغل لثرواتها وخيراتها ، فإن تصرفهم هذا لن يستمر طويلا ، بل سيبقى مدة قليلة يتمتعون فيها بما بين أيديهم ثم يزول عنهم كل شىء وسوف يعودون إلى خالقهم فيعذبهم العذاب الأكبر على ظلمهم وبغيهم وكفرهم .
والخطاب فى قوله { لاَ يَغُرَّنَّكَ } للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب ، وهو نهى للمؤمنين عن أن يغتروا بما عليه الكافرون من جاه ونفوذ وسلطان وغنى .
وليس من مقتضى النهى أن يكون قد وقع النهى عنه فإن الإنسان قد ينهى عن شىء لم يقع منه لتحذيره من الوقوع فيه فى الحال أو المآل .
ولذا روى عن قتادة أنه قال : " والله ما غروا نبى الله حتى قبضه الله إليه " .
ولقد قال صاحب الكشاف فى الجواب على أن النهى موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإن قلت : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أن عظيم القوم ومتقدمهم يخاطب بشىء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا فكأنه قيل : لا يغرنكم .
والثانى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } .
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . . التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة ، حتى لا يكون فتنة لأصحابه ، ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين ، الذي يعانون ما يعانون ، من أذى وإخراج من الديار ، وقتل وقتال :
( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار ) . .
وتقلب الذين كفروا في البلاد ، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان ، ومن مظاهر المكانة والسلطان ، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ؛ وهم يعانون الشظف والحرمان ، ويعانون الأذى والجهد ، ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال ، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة ، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء ، والباطل وأهله في منجاة ، بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ؛ فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
يقول تعالى : لا تنظروا{[6386]} إلى ما هؤلاء الكفار مُتْرفون فيه ، من النِّعْمَة والغِبْطَة والسرور ، فعَمّا قليل يزول هذا كله عنهم ، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيئة ، فإنما نَمُدّ لهم فيما هم فيه استدراجا ، وجميع ما هم فيه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
وهذه الآية كقوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } [ غافر : 4 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] ، وقال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، وقال تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [ الطارق : 17 ] ، أي : قليلا وقال تعالى : { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [ القصص : 61 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.