ثم قال - تعالى - { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أى : بطلت وفسدت وصارت هباء منثورا ، بسبب تكذيبهم لآيات الله ، وإنكارهم للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب .
والاستهفام في قوله { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } للنفى : أى : لا يجزون يوم القيامة إلا الجزاء الذي يستحقونه بسبب أعمالهم في الدنيا . فربك - سبحانه - لا يظلم أحدا .
وقوله { والذين كَذَّبُواْ } في خبره وجهانك
أحدهما : أنه الجملة من قوله : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } وهل يجزون خبر ثان أو مستأنف .
والثانى : أن الخبر { هَلْ يُجْزَوْنَ } والجملة من قوله { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } في محل نصب على الحال وقد مضمرة عند من يشترط ذلك ، وصاحب الحال فاعل كذبوا .
وقوله { وَلِقَآءِ الآخرة } فيه وجهان :
أحدهما : أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله والفاعل محذوف والتقدير : ولقائهم الآخرة .
والثانى : أنه من باب إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة " .
ثم قصت السورة علينا رذيلة من رذائل بنى إسرائيل المتعددة ، وذلك أنهم بعد أن تركهم موسى - عليه السلام - وذهب لمناجاة ربه مستخلفا عليهم أخاه هارون ، انتهزوا لين جانب هارون معهم ، فعبدوا عجلا جسداً له خوار صنعه لهم السامرى من الحلى التي استعارها نساؤهم من نساء قبط مصر .
وحاول هارون - عليه السلام - أن يصدهم عن ذلك بشتى السبل ، ولكنهم أعرضوا عنه قائلين { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } وأعلم الله - تعالى - موسى بما حدث من قومه في غيبته فعاد إليهم مغضبا حزينا ، فوبخهم على كفرهم وجهالاتهم ، وعاتب بشدة أخاه هارون لتركه إياهم يعبدون العجل ولكن هارون اعتذر له ، وأقنعه بأنه لم يقصر في نصيحتهم ولكنهم قوم لا يحبون الناصحين .
وعلى مشهد من بنى إسرائيل أحرق موسى العجل ، وقال للسامرى رأس الفتنة ومدبرها { وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } وبذلك أثبت موسى - عليه السلام - لقومه أن المستحق للعبادة إنما هو الله رب العالمين .
( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون )
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم : حبطت الناقة . . إذا رعت نباتاً ساماً ، فانتفخ بطنها ثم نفقت . . وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة . فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوة ! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام !
وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة . . ولكن كيف تحبط هذه الأعمال ؟
من ناحية الاعتقاد . . نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة ، أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة . فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل ، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن . .
ومن ناحية النظر . . نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر . . إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور ، أو آياته المصاحبة للرسالات ، أو التي يحملها الرسل ؛ ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر . . إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه . . لا تربطه بهذا الكون رابطة . وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه . وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع ، ولو بدا أنه قائم وناجح . لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود ؛ ولا يتجه الى الغاية الكبيرة التي يتجه اليها الكون كله . شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول ؛ فمآله الى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد !
والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني ؛ والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم . . هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله - سبحانه - عن مشيئته في أمرهم ، بصرفهم عن رؤية آياته ، وتدبر سننه . . وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون . .
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود ، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم ؛ إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام ؛ فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية وصحة . . والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط !
والأمم التي خلت شاهد واقع . ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم ، لا يأخذون منهم عبرة ، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف ؛ وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف . . والله من ورائهم محيط . .
وقوله : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات ، حبط عمله .
وقوله : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : إنما نجازيهم بحسب{[12136]} أعمالهم التي أسلفوها ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ، وكما تدين تدان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.