ثم ساق - سبحانه - ما يدعو إلى التعجيب من حالهم فقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن . . } والفاء للعطف على جملة محذوفة ، والاستفهام للإِنكار والزجر . أى : أيعرضون عن كتاب الله - تعالى - فلا يتدبرونه مع أنه زاخر بالمواعظ والزواجر والأوامر والنواهى .
{ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } أى : بل على قلوب هؤلاء المنافقين أقفالها التى حالت بينهم وبين التدبر والتفكر ، والأقفال : جمع قفل - بضم فسكون - وهو الآلة التى تقفل بها الأبواب وما يشبهها ، والمراد : التسجيل عليهم بأن قلوبهم مغلقة ، لا يدخلها الإِيمان ، ولا يخرج منها الكفر والنفاق .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم نكرت القلوب وأضيفت الأقفال إليها ؟
قلت : أما التنكير ففيه وجهان : أن يراد على قلوب قاسية مبهم أمرها فى ذلك . أو يراد على بعض القلوب وهى قلوب المنافقين . وأما إضافة الأقفال ، فلأنه يريد الأقفال المختصة بها ، وهى أقفال الكفر التى استغلقت فلا تنفتح .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها ، وجوب التدبر والتفكر فى آيات القرآن الكريم ، والعمل بما فيها من هدايات وإرشادات ، وأوامر ونواه ، وآداب وأحكام ، لأن عدم الامتثال لذلك يؤدى إلى قسوة القلوب وضلال النفوس ، كما هو الحال فى المنافقين والكافرين .
ويتسائل في استنكار : ( أفلا يتدبرون القرآن ) . . وتدبر القرآن يزيل الغشاوة ، ويفتح النوافذ ، ويسكب النور ، ويحرك المشاعر ، ويستجيش القلوب ، ويخلص الضمير . وينشيء حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير ، ( أم على قلوب أقفالها ? )فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور ? فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ * إِنّ الّذِينَ ارْتَدّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىَ لَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام ، ويتفكّرون في حُججه التي بيّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا يقول : أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله ، لو تدبره القوم فعقلوه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك .
حدثنا إسماعيل بن حفص الأيلي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن مَعدان ، قال : ما من آدميّ إلا وله أربع أعين : عينان في رأسه لدنياه ، وما يصلحه من معيشته ، وعينان في قلبه لدينه ، وما وعد الله من الغيب ، فإذا أراد الله بعبدٍ خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمَس عليهما ، فذلك قوله : أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، قال : حدثنا خالد بن معدان ، قال : ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين ، عينان في وجهه لمعيشته ، وعينان في قلبه ، وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره ، عاطف عنقه على عنقه ، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه ، فإذا أراد الله بعبدٍ خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب ، فعمل به ، وهما غيب ، فعمل بالغيب ، وإذا أراد الله بعبد شرّا تركه ، ثم قرأ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُهَا .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : حدثنا عمرو ، عن ثور ، عن خالد بن مَعَدان بنحوه ، إلا أنه قال : ترك القلب على ما فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرْآن أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها ، حتى يكون الله عزّ وجلّ يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به .
تفريع على قوله : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } [ محمد : 23 ] ، أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين ، أو تفريع على قوله : { فأصمّهم وأعمى أبصارهم } . والمعنى : أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب .
والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه . وحرف { أم } للإضراب الانتقالي . والمعنى : بل على قلوبهم أقفال وهذا الذي سلكه جمهور المفسرين وهو الجاري على كلام سيبويه في قوله تعالى : { أفلا تبصرون أمْ أنا خير من هذا الذي هو مهين } في سورة الزخرف ( 51 ، 52 ) ، خلافاً لما يوهمه أو توهمه ابن هشام في مغني اللبيب } .
والتدبر : التفهم في دُبر الأمر ، أي ما يخفى منه وهو مشتق من دبر الشيء ، أي خلفه .
والأقفال : جمع قُفْل ، وهو استعارة مكنية إذ شبهت القلوب ، أي العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة ، والأقفال تخييل كالأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب الهذلي :
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتنكير { قلوب } للتنويع أو التبعيض ، أي على نوع من القلوب أقفال . والمعنى : بل بعض القلوب عليها أقفال . وهذا من التعريض بأن قلوبهم من هذا النوع لأن إثبات هذا النوع من القلوب في أثناء التعجيب من عدم تدبر هؤلاء القرآن يدل بدلالة الالتزام أن قلوب هؤلاء من هذا النوع من القلوب ذواتتِ الأقفال . فكون قلوبهم من هذا النوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم . ويدنو من هذا قولُ لبيد :
تَرَّاك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يَعتلقْ بعضَ النفوس حِمامها
يريد نفسه لأنه وقع بعد قوله : تَرَّاك أمكنة البيت ، أي أنا تراك أمكنة .
وإضافة ( أقفال ) إلى ضمير { قلوب } نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب ، أي ملازمتها لها فدلّ على أنها قاسية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.