السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ} (24)

{ أفلا يتدبرون } بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير { القرآن } أي : يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير ، الفارق بين الحق والباطل ، حتى لا يجسروا على المعاصي .

فإن قيل قال تعالى : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } فكيف يمكنهم التدبر في القرآن ؟ وهو كقول القائل للأعمى : أبصر وللأصم اسمع ، أجيب بثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض ؛ الأول : تكليف ما لا يطاق جائز . والله تعالى أمر من علم منه بأنه لا يؤمن أن يؤمن فلذلك جاز أن يصمهم ، ويعميهم ، ويذمهم على ترك التدبر .

الثاني : أن قوله { أفلا يتدبرون القرآن } المراد منه الناس .

الثالث : أن يقال أنّ هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدّمة ، كأنه تعالى قال { أولئك الذين لعنهم الله } أي : أبعدهم عنه ، أو عن الصدق ، أو الخير ، أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام ، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام فإذا هم بين أمرين : إمّا لا يتدبرون القرآن ، فيبعدون عنه لأنّ الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق ، والقرآن منها هو الصنف الأعلى بل النوع الأشرف .

وإمّا يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين { أم } أي : بل { على قلوب } أي : من قلوب الفاعلين لذلك { أقفالها } فلا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً ، ولا تزداد إلا غباوة وعناداً لأنها لا تقدر على التدبير قال القشيري : فلا يدخلها زواجر التنبيه ، ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، فلا يحصل لهم فهم الخطاب . والباب إذا كان مغلقاً فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه فلا كفرهم يخرج ، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل . ا . ه .

فإن قيل ما الفائدة في تنكير القلوب . أجاب الزمخشري بقوله : يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً ، لأنّ النكرة بالوصف أولى من المعرفة كأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة .

الثاني : أن تكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأنّ النكرة لا تعم تقول : جاءني رجال فيفهم البعض ، وجاءني الرجال فيفهم الكل . والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب ، وذلك لأنّ القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً ، لأنّ القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة ، فكأنه لا يعرف قلباً فلا يكون قلباً يعرف ، كما يقال للإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان فكذلك يقال : هذا ليس بقلب ، هذا حجر ، وإذا علم هذا ، فالتعريف إمّا بالألف واللام ، وإما بالإضافة بأن يقال على قلوبهم أقفالها ، وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم .

فإن قيل قد قال تعالى { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقال تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم } [ الزمر : 22 ] .

أجيب بأنّ الأقفال أبلغ من الختم ، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : { أقفالها } بالإضافة ؟ ولم يقل أقفال كما قال : { قلوب } .

أجيب بأنّ الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم ، وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها ، أو يقال : أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد .