الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ} (24)

الثانية- قوله تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن " أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام . " أم على قلوب أقفالها " أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون . وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم . وفي حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها ] . وأصل القفل اليبس والصلابة . ويقال لما يبس من الشجر : القفل . والقفيل مثله . والقفيل أيضا نبت . والقفيل : الصوت . قال الراجز :

لما أتاك يابسا قِرْشَبَّا *** قمت إليه بالقفيل ضربا

كيف قَرَيْتَ شَيْخَك الأَزَبَّا{[13946]}

القِرْشَبُّ ( بكسر القاف ) المسن ، عن الأصمعي . وأقفله الصوم أي أيبسه ، قاله القشيري والجوهري . فالأقفال ها هنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان . أي لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر ، لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال : " على قلوب " لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة . والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها .

الثالثة- في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ من القطيعة . قال : نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت : بلى . قال فذاك لك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقرؤوا إن شئتم " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ] . وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار . وقال قتادة وغيره : معنى الآية فلعلكم ، أو يخاف عليكم ، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء . قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن . فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان ، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى : " إنما المؤمنون إخوة " {[13947]} [ الحجرات : 10 ] . وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية ، والمراد من أضمر منهم نفاقا ، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك يوجب القتال . وبالجملة فالرحم على وجهين : عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين ، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم . وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب . وقال بعض أهل العلم : إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال . وقيل : بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث ، محرما كان أو غير محرم . فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم . وهذا ليس بصحيح ، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال ، قربة ودينية ، على ما ذكرناه أولا والله أعلم . قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبد الجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول : يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسيء إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة قاطع ) . قال ابن أبي عمر قال سفيان : يعني قاطع رحم . ورواه البخاري .

الرابعة- قوله عليه السلام : ( إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم . . . ) " خلق " بمعنى اخترع وأصله التقدير ، كما تقدم{[13948]} . والخلق هنا بمعنى المخلوق . ومنه قوله تعالى : " هذا خلق الله " {[13949]} [ لقمان : 11 ] أي مخلوقه . ومعنى [ فرغ منهم ] كمل خلقهم . لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس فعله بمباشرة ولا مناولة ، ولا خلقه بآلة ولا محاولة ، تعالى عن ذلك . وقوله : [ قامت الرحم فقالت ] يحمل على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك ، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها ، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين . وثانيهما : أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للإعياء وشدة الاعتناء . فكأنه قال : لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام ، كما قال تعالى : " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " ثم قال " وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " {[13950]} [ الحشر : 21 ] . وقوله : ( فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ) مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم ، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره ، وأدخله في ذمته وخَفَارَتِه{[13951]} . وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض . ولذلك قال مخاطبا للرحم : ( أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) . وهذا كما قال عليه السلام : [ ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه ] .


[13946]:الأزب (بالفتح والتشديد): الكثير الشعر.
[13947]:آية 10 سورة الحجرات.
[13948]:راجع ج 1 ص 226.
[13949]:آية 11 سورة لقمان.
[13950]:آية 21 سورة الحشر.
[13951]:الخفارة (بالضم والكسر): الذمام.