ثم أخذوا فى تفنيد دعوته ، فقالوا : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا . . } والاستفهام للإنكار والنفى . والمراد بالإلقاء : الإنزال . وبالذكر : الوحى الذى أوحاه الله - تعالى - إليه ، وبلغه لهم . أى : أأنزل الوحى على صالح وحده دوننا ؟ لا لم ينزل عليه الوحى دوننا ، فهو واحد من أفنائنا ، وليس من أشرافنا .
{ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أى : بل صالح فيما يدعونا إليه كذاب { أَشِرٌ } أى : بطر متكبر ، معجب بنفسه ، يقال : أشر فلان ، إذا أبطرته النعمة ، وصار مغرورا متكبرا على غيره ، ولا يستعمل نعم الله فيما خلقت له .
وهكذا الجاهلون الجاحدون ، يقلبون الحقائق ، وتصير الحسنات فى عقولهم سيئات ، فصالح - عليه السلام - الذى جاءهم بما يسعدهم ، أصبح فى نظرهم كذابا مغرورا ، لا يليق بهم أن يتبعوه . . .
( فقالوا : أبشرا منا واحدا نتبعه ? إنا إذن لفي ضلال وسعر . أألقي الذكر عليه من بيننا ? بل هو كذاب أشر . . )
وهي الشبهة المكرورة التي تحيك في صدور المكذبين جيلا بعد جيل : ( أألقي الذكر عليه من بيننا )? كما أنها هي الكبرياء الجوفاء التي لا تنظر إلى حقيقة الدعوة ، إنما تنظر إلى شخص الداعية : ( أبشرا منا واحدا نتبعه ? ) !
وماذا في أن يختار الله واحدا من عباده . . والله أعلم حيث يجعل رسالته . . فيلقي عليه الذكر - أي الوحي وما يحمله من توجيهات للتذكر والتدبر - ماذا في هذا الاختيار لعبد من عباده يعلم منه تهيؤه واستعداده . وهو خالق الخلق . وهو منزل الذكر ? إنها شبهة واهية لا تقوم إلا في النفوس المنحرفة . النفوس التي لا تريد أن تنظر في الدعوى لترى مقدار ما فيها من الحق والصدق ؛ ولكن إلى الداعية فتستكبر عن اتباع فرد من البشر ، مخافة أن يكون في اتباعها له إيثار وله تعظيم . وهي تستكبر عن الإذعان والتسليم .
ومن ثم يقولون لأنفسهم : أبشرا منا واحدا نتبعه ? إنا إذا لفي ضلال وسعر . . أي لو وقع منا هذا الأمر المستنكر ! وأعجب شيء أن يصفوا أنفسهم بالضلال لو اتبعوا الهدى ! وأن يحسبوا أنفسهم في سعر - لا في سعير واحد - إذا هم فاءوا إلى ظلال الإيمان !
ومن ثم يتهمون رسولهم الذي اختاره الله ليقودهم في طريق الحق والقصد . يتهمونه بالكذب والطمع : ( بل هو كذاب أشر ) . . كذاب لم يلق عليه الذكر . أشر : شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة ! وهو الاتهام الذي يواجه به كل داعية . اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستارا لتحقيق مآرب ومصالح . وهي دعوى المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس ومحركات القلوب .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَأُلْقِيَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مّنِ الْكَذّابُ الأشِرُ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل مكذّبي رسوله صالح صلى الله عليه وسلم من قومه ثمود : أألقي عليه الذكر من بيننا ، يعنون بذلك : أنزل الوحي وخُصّ بالنبوّة من بيننا وهو واحد منا ، إنكارا منهم أن يكون الله يُرسل رسولاً من بني آدم .
وقوله : بَلْ هُوَ كَذّابٌ أشِرٌ يقول : قالوا : ما ذلك كذلك ، بل هو كذّاب أشر ، يعنون بالأشر : المَرِح ذا التجبّر والكبرياء ، والمَرِح من النشاط . وقد :
حدثني الحسن بن محمد بن سعيد القرشيّ ، قال : قلت لعبد الرحمن بن أبي حماد : ما الكذّاب الأشر ؟ قال : الذي لا يبالي ما قال ، وبكسر الشين من الأشِر وتخفيف الراء قرأت قرّاء الأمصار . وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأه : «كَذّابٌ أشُرٌ » بضم الشين وتخفيف الراء ، وذلك في الكلام نظير الحِذر والحذُر والعَجِل والعَجُل .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
و { ألقي } بمعنى أنزل ، وكأنه يتضمن عجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه قوله تعالى : { وألقيت عليك محبة مني }{[10780]} [ طه : 39 ] ومنه قوله : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً }{[10781]} [ المزمل : 5 ] ، و { الذكر } هنا : الرسالة وما يمكن أن جاءهم به من الحكمة والموعظة ، ثم قالوا : { بل هو كذاب أشر } أي ليس الأمر كما يزعم ، والأشر : البطر والمرح ، فكأنهم رموه بأنه { أشر } ، فأراد العلو عليهم وأن يقتادهم ويتملك طاعتهم فقال الله تعالى لصالح : { سيعلمون غداً من الكذاب الأشر } .
وفسر ابن عباس السُعُر بالعذاب على أنه جمع سَعير . وجملة { ألقى الذكر عليه من بيننا } تعليل للاستفهام الإِنكاري .
و { ألقى } حقيقته : رُميَ من اليد إلى الأرض وهو هنا مستعار لإِنزال الذكر من السماء قال تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] .
و ( في ) للظرفية المجازية ، جعلوا تلبسهم بالضلال والجنون كتلبس المظروف بالظرف .
و { من بيننا } حال من ضمير { عليه } ، أي كيف يُلقى عليه الذكر دوننا ، يريدون أن فيهم من هو أحق منه بأن يوحى إليه حسب مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمور بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق .
وحرف { من } في قوله : { من بيننا } بمعنى الفصل كما سماه ابن مالك وإن أباه ابن هشام أي مفصولاً من بيننا كقوله تعالى : { والله يعلم المفسد من المصلح } [ البقرة : 220 ] .
و { بل هو كذاب أشر } إضراب عن ما أنكروه بقولهم : { أألقى الذكر عليه من بيننا } أي لم ينزل الذكر عليه من بيننا بل هو كذّاب فيما ادعاه ، بَطر متكبر .
و ( الأشر ) بكسر الشين وتخفيف الراء : اسم فاعل أَشِر ، إذا فرح وبَطَر ، والمعنى : هو معجَب بنفسه مُدَّعٍ ما ليس فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.