وقوله { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } بيان لموقف إبليس من أمر الله - تعالى - . وإبليس : اسم مشتق من الإِبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس ، وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمى ، ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة . وهو كائن حى ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعى الشر الذي يخطر في النفوس ، لأنه ليس من المعقول أن يكون الأمر كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه .
قال - تعالى - { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . . . } وقوله { أبى } من الإِباء وهو الامتناع عن فعل الشئ مع القدرة على فعله ، بسبب الغرور والتكبر والتعاظم .
أى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، امتثالاً وطاعة لله - تعالى - ، إلا إبليس فإنه امتنع عن أن يكون مع الساجدين . تكبرا وغرورا وعصياناً لأمر الله - تعالى - .
وللعلماء في كون إبليس من الملائكة ، أم لا ، قولان :
أحدهما : أنه كان منهم ، لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لآدم ، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لما كان عاصيًا ، ولما استحق الطرد واللعنة ، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلاً تحت اسم المستثنى منه ، حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه . وعلى هذا الرأى اختاره ابن عباس وابن مسعود وغيرهما يكون الاستثناء متصلاً .
والثانى : أنه لم يكن من الملائكة ، لقوله - تعالى - : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . } فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإِنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، والملائكة لا ذرية لهم . .
وعلى هذا الرأى الذي اختاره الحسن وقتادة وغيرهما يكون الاستثناء منقطعًا .
قال الشيخ القاسمى : " وقد حاول الإِمام ابن القيم - رحمه الله - أن يجمع بين الرأيين فقال : والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله فإن أصله من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافى كونه من الملائكة والمثبت كونه منهم لم يتواردا على محل واحد " .
والذى نميل إليه في هذه المسألة أن إبليس لم يكن من الملائكة ، بدليل الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبى صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور . وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق بنو آدم مما وصف لكم " والآية الكريمة - وهى قوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } صريحة في أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة .
ومع هذا فإن الأمر بالسجود يشمله ، بدليل قوله - تعالى - { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ . . . } فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله - تعالى - قد أمر إبليس بالسجود لآدم . . .
ووجود إبليس مع الملائكة لا يستلزم أن يكون منهم ، ومثل ذلك كمثل أن تقول : حضر بنو فلان إلا محمدا ، ومحمد ليس من بنى فلان هؤلاء ، وإنما هو معهم بالمجاورة أو المصاحبة أو غير ذلك .
هذا ما نختاره ونميل إليه ، استنادًا إلى ظاهر الآيات وظاهر الأحاديث ، والله - تعالى - أعلم .
( إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ) .
وإبليس خلق آخر غير الملائكة . فهو من نار وهم من نور . وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وهو أبى وعصى . فليس هو من الملائكة بيقين . أما الاستثناء هنا فليس على وجهه . إنما هو كما تقول : حضر بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم . إنما هو معهم في كل مكان أو ملابسة . وأما أن الأمر المذكور للملائكة : ( وإذ قال ربك للملائكة ) . . فكيف شمل إبليس ? فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه ما بعده ، وقد ذكر صريحا في سورة الأعراف : ( قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ? ) . . وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع . فقول الله تعالى له : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ? ) . . قاطع في أن الأمر قد صدر له . وليس من الضروري أن يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة . فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما . وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف . ولكن المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة . وهذا ما نختاره .
وعلى أية حال فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود النصوص . لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ أَن يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ * قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما خلق الله ذلك البشر ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه ، سجد الملائكة كلهم جميعا إلا إبليس ، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودهم لاَدم حين سجدوا ، فلم يسجد له معهم تكبرا وحسدا وبغيا ، فقال الله تعالى ذكره : يا إبليسُ ما لكَ ألاّ تكونَ معَ السّاجِدينَ يقول : ما منعك من أن تكون مع الساجدين ؟ ف «أنْ » في قول بعض نحويي الكوفة خفض ، وفي قول بعض أهل البصرة نصب بفقد الخافض .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى من الملائكة إبليس، فقال سبحانه:"إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين" لآدم عليه السلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 30]
يقول تعالى ذكره: فلما خلق الله ذلك البشر ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه، سجد الملائكة كلهم جميعا إلا إبليس، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودهم لآدم حين سجدوا، فلم يسجد له معهم تكبرا وحسدا وبغيا، فقال الله تعالى ذكره:"يا إبليسُ ما لكَ ألاّ تكونَ معَ السّاجِدينَ" يقول: ما منعك من أن تكون مع الساجدين؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إبليس مشتق من الإبلاس، وهو اليأس من روح الله...
والسجود: خفض الجبهة بالوضع على بسط من الأرض أو غيره، وأصله الانخفاض...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {أبى} استئناف على تقدير قول قائل يقول: هلا سجد؟ فقيل: أبى ذلك واستكبر عنه. وقيل: معناه ولكن إبليس أبى.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
{أبى أن يكون مع الساجدين} زيادة فائدة، وهي أن عدم سجوده كان إباء، و"إلا" لا تعطي إلا عدم السجود فقط، أما أنه إباء فلا. (الاستغناء: 287-289).
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء، فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد به علم أنه مع الإباء والاستكبار، أو منقطع فيتصل به ما بعده، أي لكن إبليس أبى أن يكون معهم، وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص: مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظام في سلك أولئك المقربين الكرام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين). وإبليس خلق آخر غير الملائكة. فهو من نار وهم من نور. وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وهو أبى وعصى. فليس هو من الملائكة بيقين. أما الاستثناء هنا فليس على وجهه. إنما هو كما تقول: حضر بنو فلان إلا أحمد. وليس منهم. إنما هو معهم في كل مكان أو ملابسة. وأما أن الأمر المذكور للملائكة: (وإذ قال ربك للملائكة).. فكيف شمل إبليس؟ فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه ما بعده، وقد ذكر صريحا في سورة الأعراف: (قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟).. وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع. فقول الله تعالى له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟).. قاطع في أن الأمر قد صدر له. وليس من الضروري أن يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة. فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما. وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف. ولكن المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة. وهذا ما نختاره. وعلى أية حال فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود النصوص. لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد ظهر بهذا تمرده وشذوذه، أما تمرده وخروجه عن الطاعة فلأنه أبى، وقد أمر بالسجود، وأما شذوذه، والشذوذ ومجابهة الجموع بالباطل أساس الانحراف، فقد أشار الله تعالى إليه بقوله تعالى: {أن يكون مع الساجدين}.