الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (31)

قوله تعالى " فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس " فيه مسألتان :

الأولى : لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود ؛ لقوله : " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك{[9662]} " [ الأعراف : 12 ] وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام ، كما تقدم في " البقرة " {[9663]} بيانه . ثم قيل : كان من الملائكة ، فهو استثناء من الجنس . وقال قوم : لم يكن من الملائكة ، فهو استثناء منقطع . وقد مضى في " البقرة{[9664]} " هذا كله مستوفى . وقال ابن عباس : الجان أبو الجن وليسوا شياطين . والشياطين ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس . والجن يموتون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر . فآدم أبو الإنس . والجان أبو الجن . وإبليس أبو الشياطين ، ذكره الماوردي . والذي تقدم في " البقرة " خلاف هذا ، فتأمله هناك .

الثانية : الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي ، حتى لو قال : لفلان علي دينار إلا ثوبا ، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة ، وما جانس ذلك كان مقبولا ، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة . ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات . وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما : استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز ، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل . فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات ، والمكيلات من المقومات ، مثل أن يقول : علي عشرة دنانير إلا ثوبا ، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء ، ويلزم المقر جميع المبلغ . وقال محمد بن الحسن : الاستثناء من غير الجنس لا يصح ، ويلزم المقر جملة{[9665]} ما أقر به . والدليل لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس ، قال الله تعالى : " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما . إلا قيلا سلاما سلاما{[9666]} " [ الواقعة : 25 - 26 ] فاستثنى السلام من جملة اللغو . ومثله " فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس " وإبليس من جملة الملائكة ، قال الله تعالى : " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر{[9667]} ربه " [ الكهف : 50 ] وقال الشاعر :

وبلدةٍ ليس بها أنيسُ *** إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ

فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء ، والعيس وهي الجمال البيض من الأنيس ، ومثله قول النابغة{[9668]} :

[ حلفتُ يمينًا غير ذي مَثْنَوِيَّةٍ *** ولاَ علمَ إلا حسن ظن بصاحب ]


[9662]:راجع ج 7 ص 169.
[9663]:راجع ج 1 ص 296 و ص 294.
[9664]:راجع ج 1 ص 296 و ص 294.
[9665]:في ي: جميع.
[9666]:راجع ج 17 ص 206.
[9667]:راجع ص 419 من هذا الجزء.
[9668]:لم يذكر المؤلف رحمة الله عليه قول النابغة، أو لعله سقط من الناسخ. وكأنه يشير إلى قوله: حلفت يمينا غير ذي مثنوية ***ولا علم إلا حسن ظن بصاحب. وهذا البيت أورده سيبويه في كتابه شاهدا على نصب ما بعد إلا على الاستثناء المنقطع؛ لأن حسن الظن ليس من العلم. والمثنوية: الاستثناء في اليمين. والمعنى: حلفت غير مستثن في يميني حسن ظن مني بصاحبي قام عندي مقام العلم الذي يوجب اليمين . (راجع كتاب سيبويه).