ثم ختم - سبحانه - الحديث عن النفقة والمنفقين بقوله : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وقوله : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } استئناف المقصود منه مدح أولئك الذين يعممون صدقاتهم في كل الأزمان وفي كل الأحوال فهم يتصدقون على المحتاجين في الليل وفي النهار ، في الغدو وفي الآصال ، في السر وفي العلن ، في كل وقت وفي كل حال ، لأنهم لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم يحرصون كل الحرص على كل ما يرضى الله تعالى .
وقال بين الله - تعالى - في ثلاث جمل حسن عاقبتهم ، وعظيم ثوابهم فقال في الجملة الأولى { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي فلهم أجرهم الجزيل عند خالقهم ومربيهم ورازقهم .
والجملة الكريمة خبر لقوله : { الذين يُنْفِقُونَ . . . } ودخلت الفاء في الخبر لأن الموصول في معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره جوازاً ، وللدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها أي أن استحقاق الأجر متسبب عن الإِنفاق في سبيل الله .
وقال في الجملة الثانية : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : لا خوف عليهم من أي عذاب لأنهم في مأمن من عذاب الله بسبب ما قدموا من عمل صالح .
وقال في الجملة الثالثة : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي لا يصيبهم ما يؤدي بهم إلى الحزن والهم والغم ، لأنهم دائماً في اطمئنان يدفع عنهم الهموم والأحزان وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها " أن علي بن أبي طالب كان يملك أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على ذلك ؟ فقال أريد أن أكون أهلا لما وعدني ربي . فقال صلى الله عليه وسلم : لك ذلك " " فأنزل الله هذه الآية .
والحق أن هذه الرواية وغيرها لا تمنع عمومها ، فهي تنطبق على كل من بذل ماله في سبيل الله في عموم الأوقات والأحوال .
أما بعد : فهذه أربع عشرة آية بدأت من قوله - تعالى - { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ . . . }
وانتهت بقوله - تعالى - : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ . . . } .
والذي يقرأ هذه الآيات الكريمة بتدبر وتعقل يراها قد حضت الناس على الإِنفاق في سبيل الله بأبلغ الأساليب ، وأحكم التوجيهات ، وأفضل الوسائل ، كما يراها بينت أحكام الصدقة وآدابها ، والآفات التي تذهب بخيرها وضربت الأمثال لذلك ، كما يراها قد بينت أنواعها ، وطريقة أدائها ، وأولى الناس بها ورسمت صورة كريمة للفقراء المتعففين ، وكما بدأت الآيات حديثها بالثناء الجميل على المنفقين فقد ختمته أيضاً بالثناء عليهم وبالعاقبة الحسنى التي أعدها الله لهم .
ولو أن المسلمين أخذوا بتوجيهات هذه الآيات لعمتهم السعادة في دنياهم ، ولنالوا رضا الله ومثوبته في أخراهم .
وبعد هذه الصورة المشرقة التي ساقها القرآن عن النفقة والمنفقين أتبعها بصورة مضادة لها وهي صورة الربا والمرابين . ومن مظاهر التضاد والتباين بين الصورتين أن الصدقة بذل للمال في وجوه الخير بدون عوض ينتظره المتصدق ، أما الربا فهو إخراج المال في وجوه الاستغلال لحاجة المحتاج مع ضمان استرداده ومعه زيادة محرمة . وأن الصدقة نتيجتها الرخاء والنماء والطهارة للمال ، وشيوع روح المحبة والتعامل والتكامل والاطمئنان بين أفراد المجتمع ، أما الربا فنتيجته محق البركة من المال ، وشيوع روح التقاطع والتحاسد والتباغض والخوف بين الناس .
وأخيرا يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق ، وكل أوقات الإنفاق ؛ وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله :
( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار ، سرا وعلانية ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها ، سواء في صدر الآية أم في ختامها . وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير . .
هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال . .
( بالليل والنهار . سرا وعلانية ) . .
لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات . .
هكذا إطلاقا . من مضاعفة المال . وبركة العمر . وجزاء الآخرة . ورضوان الله .
( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
لا خوف من أي مخوف ، ولا حزن من أي محزن . . في الدنيا وفي الآخرة سواء . .
إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.