ولكن القرآن كعادته فى قرن الترهيب بالترغيب . لا يترك النفوس فى هذا الفزع ، بل يتبع ذلك بما يمسح عنها خوفها ورعبها عن طريق بيان حسن حال المؤمنين فيقول : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار . . . } .
وغير - سبحانه - الأسلوب فلم يقل : والذين آمنوا على سبيل العطف على الذين كفروا . . . تعظيم لشأن المؤمنين ، وإشعار بمباينة حالهم لحال خصمائهم الكافرين .
أى : إن الله - تعالى - بفضله وإحسانه يدخل عباده الذين آمنوا وعملوا فى دنياهم الأعمال الصالحات ، جنات عاليات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار .
وقوله { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } بيان لما ينالون فى تلك الجنات من خير وفير ، وعطاء جزيل .
أى : يتزينون فى تلك الجنات بأساور كائنة من الذهب الخالص ، ومن اللؤلؤ الثمين ، أما لباسهم الدائم فيها فهو من الحرير الناعم الفاخر .
قال الآلوسى : وقوله - تعالى - : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا ، للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنى عن البيان . . . ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام فى كل أهل الجنة ، وقيل هو باعتبار الأغلب ، لما أخرجه النسائى وابن حيان وغيرهما عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة . وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوَاْ إِلَىَ صِرَاطِ الْحَمِيدِ } .
يقول تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بالله بالله ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم الله به من صالح الأعمال ، فإن الله يُدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، فيحلّيهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلُؤْلُؤا فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة نصبا مع التي في الملائكة ، بمعنى : يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا ، عطفا باللؤلؤ على موضع الأساور لأن الأساور وإن كانت مخفوضة من أجل دخول «مِنْ » فيها ، فإنها بمعنى النصب قالوا : وهي تعدّ في خط المصحف بالألف ، فذلك دليل على صحة القراءة بالنصب فيه . وقرأت ذلك عامة قرّاء العراق والمصرين : «وَلُؤْلُؤٍ » خفضا عطفا على إعراب الأساور الظاهر .
واختلف الذي قرءوا ذلك كذلك في وجه إثبات الألف فيه ، فكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه يقول : أثبتت فيه كما أثبتت في «قالوا » و «كالوا » . وكان الكسائي يقول : أثبتوها فيه للهمزة ، لأن الهمزة حرف من الحروف .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متفقتا المعنى صحيحتا المخرج في العربية فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وَلِباسُهُمْ فيها حَرِيرٌ يقول : ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير .
هذه الآية معادلة لقوله : { فالذين كفروا } [ الحج : 19 ] وقرأ الجمهور «يُحلون » بضم الياء وشد اللام من الحلي ، وقرأ ابن عباس «يَحلَون » بفتح الياء واللام وتخفيفها ، يقال حلي الرجال وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي وقيل هي من قولهم لم يحل فلان بطائل{[8335]} ، و { من } في قوله { من أساور } هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض ، و «الأساور » جمع سوار وإسوار بكسر الهمزة ، وقيل { أساور } جمع أسورة وأسورة جمع سوار ، وقرأ ابن عباس من «أسورة من ذهب » ، و «اللؤلؤ » الجوهر وقيل صغاره وقيل كباره والأشهر أنه اسم للجوهر ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر{[8336]} «ولؤلؤاً » بالنصب عطفاً على موضع الأساور لأن التقدير يحلون أساور ، وهي قراءة الحسن والجحدري وسلام ويعقوب والأعرج وأبي جعفر وعيسى بن عمر ، وحمل أبو الفتح نصبه على إضمار فعل ، وقرأ الباقون من السبعة و «لؤلؤٍ » بالخفض عطفاً إما على لفظ الأساور ويكون اللؤلؤ في غير الأساور ، وإما على الذهب لأن الأساور أيضاً تكون «من ذهب » و «لؤلؤ » قد جمع بعضه إلى بعض ، ورويت هذه القراءة عن الحسن بن أبي الحسن وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة ، وثبتت في الإمام ألف بعد الواو قاله الجحدري ، وقال الأصمعي : ليس فيها ألف ، وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم همز الواو الثانية دون الأولى ، وروى المعلى بن منصور عن أبي عن عاصم ضد ذلك ، قال أبو علي : همزهما وتخفيفهما وهمز إحداهما دون الأخرى جائز كله ، وقرأ ابن عباس «ولئلئاً » بكسر اللامين ، وأخبر عنهم بلباس الحرير لأنها من أكمل حالات الآخرة ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة »{[8337]} وقال ابن عباس : لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط وإما الصفات فمتباينة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.