ثم كرر - سبحانه - الأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحض الناس على اتباع ما يسعدهم فقال له : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } .
أى قل لهم يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في جميع الأوامر والنواهى ، وإن من يدعي أنه مطيع لله دون أن يتبع رسوله فإنه يكون كاذبا في دعواه ، ولذا لم يقل - سبحانه - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، للإشعار بأن الطاعة واحدة وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى ، كما قال سبحانه : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم ذكر - سبحانه - عاقبة العصاة المعاندين فقال : { فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } أى : فإن أعرضوا عما تأمرهم به يا محمد ولم يستجيبوا لك واستمروا على كفرهم ، فإنهم لا ينالون محبة الله ، لأنهم كافرون .
ففى هذه الجملة الكريمة دلالة على أن محبة الله لا ينالها إلا من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه - سبحانه - نفى حبه عن الكافرين ، ومتى نفى حبه عنهم فقد أثبت بغضه ، و لأنه عبر عن تركهم اتباع رسوله بالتولي وهو أفحش أنواع الإعراض ، ومن أعرض عن طاعة رسول الله كان بعيداً عن محبة الله .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت للناس من التوجيهات السامية ، والآداب العالية ما من شأنه أن يغرس في النفوس إخلاص العبادة لله ، والخشية من عقابه ، والأمل في ثوابه ، والإكثار من العلم الصالح الذى يؤدى إلى رضا الله ومحبته .
{ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهؤلاء الوفد من نصارى نجران : أطيعوا الله والرسول محمدا ، فإنكم قد علمتم يقينا أنه رسولي إلى خلقي ابتعثته بالحق تجدونه مكتوبا عندكم في الإنجيل ، { فإنْ تَوَلّوْا } فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك ، وأعرضوا عنه ، فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر بجحد ما عرف من الحق ، وأنكره بعد علمه ، وأنهم منهم بجحودهم نبوّتك وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه بعد علمهم بصحة أمرك وحقيقة نبوّتك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { قُلْ أطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ } فأنتم تعرفونه يعني الوفد من نصارى نجران وتجدونه في كتابكم . { فَإِنْ تَوَلّوْا } على كفرهم ، { فإِنّ اللّهَ لا يحِبّ الْكَافِرِينَ } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدا، فإنكم قد علمتم يقينا أنه رسولي إلى خلقي ابتعثته بالحق تجدونه مكتوبا عندكم في الإنجيل. {فإنْ تَوَلّوْا}: فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، وأنهم منهم بجحودهم نبوّتك وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه بعد علمهم بصحة أمرك وحقيقة نبوّتك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الطاعة: اتباع الداعي فيما دعا إليه بأمره أو إرادته، ولذلك قد يكون الإنسان مطيعا للشيطان فيما يدعوه إليه، وإن لم يقصد أن يطيعه، لأنه إذا مال مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى المعصية، فقد أطاع الداعي إليها... فان قيل ما الفرق بين الطاعة وموافقه الإرادة؟ قيل: موافقة الإرادة قد تكون طاعة، وقد تكون غير طاعة إذا لم تقع موقع الداعي إلى الفعل... "إن الله لا يحب الكافرين"، معناه: أنه يبغضهم ولا يريد ثوابهم، فدل بالنفي على الاثبات وكان ذلك أبلغ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَإِن تَوَلَّوْا} أي قَصَّرُوا في الطاعة بأن خالفوا، ثم قال: {فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ} لم يَقُلْ العاصين بل قال الكافرين، ودليل الخطاب أنه يحب المؤمنين وإن كانوا عُصَاة...
تحقيق الكلام، أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته، ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين، وهي أن محمدا يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى، ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة، فقال: {قل أطيعوا الله والرسول}: يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي، لا كما تقول النصارى في عيسى، بل لكوني رسولا من عند الله، ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبهة التي ألقاها المنافق في الدين.
{فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}: إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله، لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه، ومن كفر استوجب الذلة والإهانة، وذلك ضد المحبة، والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الاتباع قد يكون عن غلبة لا عن طاعة، بين أنه لا ينفع إلا مع الإذعان فقال -أو يقال: لما كان صلى الله عليه وسلم في غاية الرأفة بالعباد وكان يعلم أن آحاد الأمة لا يقدرون على كمال اتباعه لما له مع العصمة من الطبع على خصال الكمال كان كأنه قال له سبحانه وتعالى: فإن لم يقدروا على كمال اتباعي؟ فقال: {قل} وقال الحرالي: ولما ذكر تعالى ما تقدم من التحذيرين، في رتبتين أولاهما في الذكر بحالتين من موجب التحذيرين، فكان الاتباع موجب النجاة من التحذير الثاني الباطن الذي مبدؤه الرأفة، وكان الطاعة موجب النجاة من التحذير الأول السابق، فمن أطاع الله ورسوله فيما نهى عنه من اتخاذ ولاية الكافرين من دون ولاية المؤمنين سلم من التحذير الظاهر، ومن اتبع الرسول فأحبه الله سلم من التحذير الباطن، فختم الخطاب بما به بدأ، أو لما كانت رتبة الاتباع عليا وليتها رتبة الائتمار، فهو إما متبع على حب وإما مؤتمر على طاعة، فمن لم يكن من أهل الاتباع فليكن من أهل الطاعة، فكأن الخطاب يفهم: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} [آل عمران: 31]، فإن لم تستطيعوا أن تتبعوني فأطيعوني، انتهى. فقال سبحانه وتعالى: {قل أطيعوا الله} أي لما له من صفات الكمال. ولما قدم أن رضاه في اتباعه صلى الله عليه وسلم فدل على أن الطاعتين واحدة قال موحداً للعامل: {والرسول} أي الكامل في الرسلية لما له به سبحانه وتعالى من مزايا الاتصال، وهو وإن كان اسماً كلياً لكنه كان حين إنزال هذا الخطاب مختصاً بأكمل الخلق محمد بن عبد الله المرسل إلى الخلق كافة على أن طاعته طاعة لجميع الرسل الذين بينوا للناس أمره صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وسلم. قال الحرالي: فكان إشارة ذلك إلى ما نهوا عنه من التولي إلى ما ينتظم في معنى ذلك، وفيه إشعار بأن الأمر يكون فيه محوطاً بالرحمة من حيث ذكر الرسول فيه بما هو رحمة للعالمين
{فإن تولوا} أي عن طاعة خطاب الله والرسول المحفوف باللطف من الله سبحانه وتعالى والرحمة من رسول الله- انتهى.
و {تولوا} يحتمل المضارع والمضي، فكان الأصل في الكلام: {فإن الله} الذي له الغنى المطلق لا يحبكم، أو: لا يحبهم، ولكنه أظهر الوصف المعلم بأن التولي كفر فقال: {لا يحب الكافرين} قال الحرالي: أفرد لله لما كان وعيداً، إبقاء لرسوله صلى الله عليه وسلم في حيز الرحمة.
ولما نفى عمن تولى أن يحبه كان في إشعاره أن هذا الكفر عموم كفر يداخل رتباً من الإيمان من حيث نفى عنه الحب فنفى منه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة ونحو ذلك بحسب رتب تناقص الكفر، لأنه كفر دون كفر، ومن فيه كفر فهو غير مستوفي اتباع الرسول بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وإنما يحب الله من اتبع رسوله، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار من معنى أوله وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده، فكلما كان أكمل توحيداً كان أحب، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد الذي هو محل الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كان كفراً بحسب ما يغطى على تلك الرتبة من التوحيد، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه وكشف غطاء الأعين ورفع حجب القلوب -انتهى.
وقد وضح أن الآية من الاحتباك- فأصل نظمها: فإن تولوا فإن الله لا يحبهم لكفرانهم، وإن أقبلوا فإن الله يحبهم لإيمانهم، فإن الله لا يحب الكافرين، والله يحب المؤمنين -إثبات التولية في الأول يدل على حذف الإقبال من الثاني، وإثبات الكراهة في الثاني يدل على حذف مثلها في الأول.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الأوامر، وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد، وما هو من فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه، لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته، فمن أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل أطيعوا الله والرسول. فإن تولوا)...
إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها.. حقيقة الطاعة لشريعة الله، والاتباع لرسول الله، والتحاكم إلى كتاب الله.. وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام. توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها، وتطوعهم لأمرها، وتنفذ فيهم شرعها، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها. ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعا، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{قل أطيعوا الله والرسول} فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف،فلم يقل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول،وعدم التكرار يومئ إلى أن الطاعة واحدة،وأن إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى،كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا} [النساء 80]... {فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}... ففي هذا النص الكريم دلالة على أن محبة الله لا ينالها إلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه: أولها: أنه سبحانه عبر بأنه لا يحبهم، وليس بعد نفي الحب إلا البغض والسخط،فالله ساخط على من لا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم،فمن المؤكد أنه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه. وثانيها: أنه عبر عن تركهم اتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله. وثالثها: أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله! إن ذلك في القياس غريب...