محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{رَّبَّنَا ٱكۡشِفۡ عَنَّا ٱلۡعَذَابَ إِنَّا مُؤۡمِنُونَ} (12)

{ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم *ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل . ولا يستعمل ( الارتقاب ) إلا في أمر مكروه . وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه : الأول – قال بعضهم : كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف . فأخذوا بالمجاعة . قالوا : وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع ، ن الظلمة كهيئة الدخان . روى ابن جرير{[6505]} عن مسروق قال : ( كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا . فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن : إن قاصّا عند أبواب كندة يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام . فقام عبد الله وجلس وهو غضبان ، فقال : يا أيها الناس ! اتقوا الله . فمن علم شيئا فليقل بما يعلم . ومن لا يعلم فليقل ( الله أعلم ( . فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم ( الله أعلم ) وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم ( لا أعلم ) . فإن الله عز وجل يقول{[6506]} لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } أن النبي صلى الله عليه وسم لما رأى من الناس إدبارا قال : اللهم سبعا كسبع يوسف . فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف . ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا ، من الجوع ، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال : يا محمد ! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم . قال الله عز وجل{[6507]} { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } إلى قوله {[6508]} : { إنكم عائدون } قال : فكشف عنهم {[6509]} { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } فالبطشة يوم بدر . وقد مضت آية الروم وآية الدخان . والبطشة واللزام ) .

قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في ( الصحيحين ) {[6510]} ورواه الإمام أحمد{[6511]} في ( مسنده ) / وهو عند الترمذي {[6512]} والنسائي في تفسيرهما ، وعند ابن جرير{[6513]} وابن أبي حاتم من طرق متعددة وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعيّ والضحاك وعطية العوفيّ ، وهو اختيار ابن جرير .

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ( : والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة . لقول ابن مسعود ( ثم عادوا ) ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر . وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك . فلذلك قال {[6514]} :

* وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * البيت .

لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة . فإن لم يحمل على التعدد ، وإلا فهو مشكل جدا . والله المستعان . انتهى .

وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين : أحدهما – أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ، ويرتفع الغبار الكثير ، ويظلم الهواء . وذلك يشبه الدخان . ولهذا يقال لسنة المجاعة ( الغبراء ) ثانيهما- أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان . فيقولون ( كان بيننا أمر ارتفع له دخان ( . والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان . انتهى .

وقال الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة . لأن الدخان مما يتأذى به . فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، أو على ما يلزمه ، ولذا قيل :

تريد مهذبا لا عيب فيه*** وهل عود يفوح بلا دخان

/ الوجه الثاني في الآية – أنه دخان يظهر في العالم . وهو إحدى علامات القيامة . ولم يأت بعد ، وهو آت وهو قول حذيفة . ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين . قال الرازيّ : واحتج القائلون بهذا القول بوجوه : الأول – أن قوله { يوم تأتي السماء بدخان } يقتضي وجود دخان تأتي به السماء . وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع ، فذاك ليس بدخان أتت به السماء . فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه ، عدولا عن الظاهر ، لا لدليل منفصل ، وإنه لا يجوز . الثاني – أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا . والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم . ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانا مبينا . والثالث – أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس . وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم ، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز . وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل . الرابع – ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة .

أما القائلون بالقول الأول ، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز . وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع ، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل ، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا . فإن قالوا : الدليل على أن المراد ما ذكرناه ، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } وهذا ، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة ، استقام . فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سفيان إليه وناشده بالله وبالرحم ، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية ، أن يؤمنوا به . فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم . أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة ، لم يصحّ ذلك . لأن عند ظهور علامات القيامة ، لا يمكنهم أن يقولوا { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } ولم يصح أيضا أن يقال لهم { إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون } والجواب : لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى/ ظهور سائر علامات القيامة ، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف ، فتحدث هذه الحالة . ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون . فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق . وإذا كان هذا محتملا ، فقد سقط ما قالوه ، والله أعلم . انتهى كلام الرازي .

وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني ، ذهابا إلى ما صح عن ابن عباس ، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين ، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرهما ، التي أوردوها ، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة ، على أن الدخان من الآيات المنتظرة . مع أنه ظاهر القرآن . قال الله تبارك وتعالى { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } أي بيّن واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه ، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد . وهكذا قوله تعالى : { يغشى الناس } أي يتغشاهم ويعمّهم . ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه { يغشى الناس } . وقوله تعالى : { هذا عذاب أليم } أي يقال لهم ذلك ، تقريعا وتوبيخا . كقوله عز وجل{[6515]} : { يوم يدعّون إلى نار جهنم دعا* هذه النار التي كنتم بها تكذبون } أو يقول بعضهم لبعض ذلك . وقوله سبحانه وتعالى : { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه ، سائلين رفعه وكشفه عنهم . كقوله جلت عظمته{[6516]} { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } وكذا قوله جل وعلا{[6517]} { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } وهكذا قال جل جلاله .


[6505]:انظر الصفحة رقم 112 من الجزء الخامس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6506]:[38/ ص/ 86].
[6507]:[44/ الدخان/10].
[6508]:[44/ الدخان/15].
[6509]:[44/ الدخان/ 16].
[6510]:أخرجه البخاري في: 65 – كتاب التفسير، 44 – سورة الدخان، 2 – باب {يغشى الناس هذا عذاب أليم}، حديث رقم 570، عن عبد الله بن مسعود.وأخرجه مسلم في:50- كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم39(طبعتنا).
[6511]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 380 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 3613 (طبعة المعارف(.
[6512]:أخرجه في: 44 – كتاب التفسير 44 – سورة الدخان، 1 – باب حدثنا محمود بن غيلان.
[6513]:انظر الصفحة رقم 111 من الجزء الخامس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6514]:وعجز البيت: * ثمال اليتامى عصمة للأرامل* وهذا البيت من قصيدة أبي طالب، عمّ مولانا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومطلعها: خليليّ ما أذنى لأول عاذل*** بصغواء في حق ولا عند باطل
[6515]:[52 / الطور/ 13/14].
[6516]:[6/ الأنعام/ 27].
[6517]:[14/ إبراهيم/ 44].