ثم بين الله تعالى حقيقة الإيمان بقوله :
{ إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون } .
المؤمنون حقاً هم الذين صدّقوا ولا تشوبهم الريبة في عقائدهم ، ويبذلون النفسَ والنفيس لإحقاقِ الحق وإزهاق الباطل ، أولئك هم الصادقون .
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي : على الحقيقة { الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهُم في سبيل الله } أي : من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله ، فإن من جاهد الكفار ، دل ذلك ، على الإيمان التام في القلب ، لأن من جاهد غيره على الإسلام ، والقيام بشرائعه ، فجهاده لنفسه على ذلك ، من باب أولى وأحرى ؛ ولأن من لم يقو على الجهاد ، فإن ذلك ، دليل على ضعف إيمانه ، وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب ، وهو الشك ، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني ، بما أمر الله بالإيمان به ، الذي لا يعتريه شك ، بوجه من الوجوه .
وقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي : الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة ، فإن الصدق ، دعوى كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان ، وأعظم ذلك ، دعوى الإيمان ، الذي هو مدار السعادة ، والفوز الأبدي ، والفلاح السرمدي ، فمن ادعاه ، وقام بواجباته ، ولوازمه ، فهو الصادق المؤمن حقًا ، ومن لم يكن كذلك ، علم أنه ليس بصادق في دعواه ، وليس لدعواه فائدة ، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى .
{ ثم لم يرتابوا } أي : لم يشكوا في إيمانهم وفي ذلك تعريض بالأعراب المذكورين بأنهم في شك وكذلك قوله في هؤلاء .
{ أولئك هم الصادقون } تعريض أيضا بالأعراب إذ كذبوا في قولهم : { آمنا } وإنما عطف ثم لم يرتابوا بثم إشعارا بثبوت إيمانهم في الأزمنة المتراخية المتطاولة .
{ وجاهدوا } يريد جهاد الكفار لأنه دليل على صحة الإيمان ويبعد أن يريد جهاد النفس والشيطان لقوله : { بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } .
ولما نفى عنهم الإيمان ، وكان ربما غلط شخص في نفسه فظن-{[60957]} أنه مؤمن ، وليس كذلك ، أخبر بالمؤمن على سبيل الحصر ذاكراً أمارته الظاهرة الباطنة ، وهي أمهات الفضائل : العلم والعفة والشجاعة ، فقال{[60958]} جواباً لمن قال : فمن الذي آمن ؟ عادلاً عن جوابه إلى وصف الراسخ ترغيباً في الاتصاف بوصفه وإيذاناً بأن المخبر عن نفسه بآية إيمانه{[60959]} لا يريد إلا أنه راسخ : { إنما المؤمنون } أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب ، قال القشيري : والقلوب لا تحيى إلا بعد ذبح النفوس ، والنفوس لا تموت ولكنها تعيش { الذين آمنوا } أي صدقوا معترفين { بالله } معتقدين جميع ما له من صفات الكمال { ورسوله } شاهدين برسالته ، وهذا هو المعرفة التي هي العلم ، وغايتها الحكمة ، وهذا الإثبات هنا يدل على أن-{[60960]} المنفي فيما قيل الكمال لا المطلق ، وإلا لقال " إنما الذين آمنوا " .
ولما كان هذا عظيماً والثبات عليه أعظم ، وهو عين الحكمة ، أشار إلى عظيم مزية الثبات بقوله : { ثم } أي بعد امتطاء هذه الرتبة العظيمة { لم يرتابوا } أي ينازعوا-{[60961]} الفطرة الأولى في تعمد التسبب إلى الشك ولم يوقعوا الشك في وقت من الأوقات الكائنة بعد الإيمان ، فلا يزال على تطاول الأزمنة وحصول الفتن وصفهم بعدم الريب غضاً جديداً ، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى العفو عن حديث النفس الذي لا يستطيع الإنسان دفع أصله ويكرهه غاية الكراهة{[60962]} ويجتهد في دفعه ، فإذا أن ؟ المذموم المشي معه والمطاولة منه حتى يستحكم .
ولما ذكر الأمارة الباطنة على وجه جامع لجميع العبادات المالية والبدنية قال{[60963]} : { وجاهدوا } أي أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان { بأموالهم } وذلك هو العفة { وأنفسهم } أعم من النية وغيرها ، وذلك هو الشجاعة ، وقدم الأموال لقلتها في ذلك الزمان عند العرب { في سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى {[60964]}المال والنفس{[60965]} لا الذين يتخلفون ويقولون : شغلتنا أموالنا وأهلونا ، قال القشيري : جعل الله-{[60966]} الإيمان مشروطاً{[60967]} بخصال ذكرها ، وذكر بلفظ " إنما " وهي للتحقيق ، تقتضي الطرد والعكس ، فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه{[60968]} قوله ، والإيمان للعبد الأمان{[60969]} ، فإيمان{[60970]} لا يوجب الأمان لصاحبه فخلافه أولى به{[60971]} .
ولما عرف بهم بذكر أمارتهم على سبيل الحصر ، أنتج ذلك حصراً آخر قطعاً لأطماع المدعين على وجه أثنى عليهم فيه بما تعظم المدحة به عندهم ترغيباً {[60972]}في مثل{[60973]} حالهم فقال : { أولئك } أي العالو الرتبة الذين حصل لهم استواء الأخلاق والعدل في الدين بجميع أمهات الأخلاق { هم } أي خاصة { الصادقون * } قالاً وحالاً وفعالاً ، وأما غيرهم فكاذب .