{ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا } أي : كيف يخصه الله من بيننا وينزل عليه الذكر ؟ فأي مزية خصه من بيننا ؟ وهذا اعتراض من المكذبين على الله ، لم يزالوا يدلون به ، ويصولون ويجولون ويردون به دعوة الرسل ، وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقول الرسل لأممهم : { قالت رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } فالرسل من الله عليهم بصفات وأخلاق وكمالات ، بها صلحوا لرسالات ربهم والاختصاص بوحيه ،
ومن رحمته وحكمته أن كانوا من البشر ، فلو كانوا من الملائكة لم يمكن البشر ، أن يتلقوا عنهم ، ولو جعلهم من الملائكة لعاجل الله المكذبين لهم بالعقاب العاجل .
والمقصود بهذا الكلام الصادر من ثمود لنبيهم صالح ، تكذيبه ، ولهذا حكموا عليه بهذا الحكم الجائر ، فقالوا : { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي : كثير الكذب والشر ،
قوله تعالى : " أألقي الذكر عليه من بيننا " أي خصص بالرسالة من بين آل ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا ؟ ! وهو استفهام معناه الإنكار . " بل هو كذاب أشر " أي ليس كما يدعيه وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق . والأشر المرح والتجبر والنشاط . يقال : فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا قال امرؤ القيس يصف كلبا :
فيدركنا فَغِمٌ داجن *** سميع بصير طُلُوبٌ نَكِرْ{[14482]}
أَلَصُّ الضُّرُوسِ حَنِيُّ الضلوع *** تَبُوعٌ أرِيبٌ نَشِيطٌ أَشِرْ{[14483]}
وقيل : " أشر " بطر . والأشر البطر ، قال الشاعر :
أَشِرْتُم بلُبْسِ الخَزِّ لما لَبِسْتُم *** ومن قبل ما تدرون مَنْ فَتَحَ القُرَى
وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران ، وقوم أُشَارى مثل سكران وسكارى ، قال الشاعر{[14484]} :
وَخَلَّتْ وُعُولاً أُشَارَى بها *** وقد أَزْهَفَ الطعنُ أبطالَها
وقيل : إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها ، والمعنى واحد . وقال ابن زيد وعبدالرحمن بن حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال . وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة " أشر " بفتح الشين وتشديد الراء يعني به : أشرنا وأخبثنا .
ولما كان فيما قالوه أعظم تكذيب مدلول على صحته في زعمهم بما أومأوا إليه من كونه آدمياً مثلهم ، وهو مع ذلك واحد من أحادهم فليس هو بأمثلهم وهو منفرد فلم يتأيد فكره بفكر غيره حتى يكون موضع الوثوق به ، دلوا عليه بأمر آخر ساقوه أيضاً مساق الإنكار ، وأومأوا بالإلقاء إلى أنه في إسراعه كأنه سقط من علو فقالوا : { أألقي } أي أنزل بغتة في سرعة لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ولم يأتمروا فيه قبل إتيانه به شيء منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع . ولما كان الإلقاء يكون للأجسام غالباً ، فكان لدفع هذا الوهم تقديم النائب عن الفاعل أولى بخلاف ما تقدم في ص فقالوا : { الذكر } أي الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم ، وعبروا بعلى إشارة إلى أن مثل هذا الذي تقوله لا يقال إلا عن قضاء غالب وأمر قاهر فقال : { عليه } ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم : { من بيننا } أي وبيننا من هو أولى بذلك سناً وشرفاً ونبلاً .
ولما كان هذا الاستفهام لكونه إنكارياً بمعنى النفي ، أضربوا عنه بقولهم على وجه النتيجة عطفاً على ما أفهمه الاستفهام من نحو : ليس الأمر كما زعم : { بل هو } لما أبديناه من الشبه { كذاب } أي بليغ في الكذب { أشر * } أي مرح غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه بمرح وتجبر وبطر ، ونشط في ذلك حتى صار كالمنشار الذي هو متفرغ للقطع مهيأ له خشن الأمر سيئ الخلق والأثر فهو يريد الترفع .
قوله : { أألقي الذكر عليه من بيننا } الاستفهام للإنكار . أي اختصه الله بالرسالة والوحي من بين آل ثمود وفيهم من هو خير منه مالا وحسبا وشرفا .
قوله : { بل هو كذاب أشر } الأشر معناه البطر {[4406]} وبل للإضراب عن كون صالح نبيا صادقا أرسله الله إليهم ، وإنما هو كذاب بطر ، حمله بطره أن يطلب التعظم علينا والتكبر من غير استحقاق لذلك .