الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

قوله تعالى : " الم غلبت الروم في أدنى الأرض " روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض - إلى قول - يفرح المؤمنون . بنصر الله " . قال : ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس . قال : هذا حديث غريب{[12424]} من هذا الوجه . هكذا قرأ نصر بن علي الجهضمي " غلبت الروم " . ورواه أيضا من حديث ابن عباس بأتم منه . قال ابن عباس في قول الله عز وجل : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض " قال : غلبت وغلبت ، قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أما إنهم سيغلبون ) فذكره أبو بكر لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ألا جعلته إلى دون ) - أراه قال العشر – قال : قال أبو سعيد : والبضع ما دون العشرة . قال : ثم ظهرت الروم بعد ، قال : فذلك قوله " الم . غلبت الروم - إلى قوله - ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله " . قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب . ورواه أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين " وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك نزل قول الله تعالى : " ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين " . قال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى . وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان . وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ ثلاث سنين أو تسع{[12425]} سنين ؟ فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه ، قال : فسموا بينهم ست سنين ، قال : فمضت الست سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله تعالى قال " في بضع سنين " قال : وأسلم عند ذلك ناس كثير . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب . وروى القشيري وابن عطية وغيرهما : أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال : أسركم أن غَلبت الروم ؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين . فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه - وقيل أبو سفيان بن حرب - : يا أبا فصيل{[12426]} - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب - أي نتراهن في ذلك فراهنهم أبو بكر . قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار{[12427]} ، وجعلوا الرهان خمس قلائص{[12428]} والأجل ثلاث سنين . وقيل : جعلوا الرهان ثلاث قلائص . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : ( فهلا احتطت ، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر ، ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل ) ففعل أبو بكر ، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم في أثناء الأجل . وقال الشعبي : فظهروا في تسع سنين . القشيري : المشهور في الروايات أن ظهور الروم كان في السابعة من غلبة فارس للروم ، ولعل رواية الشعبي تصحيف من السبع إلى التسع من بعض النقلة . وفي بعض الروايات : أنه جعل القلائص سبعا إلى تسع سنين . ويقال : إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين . وحكى النقاش وغيره : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أبي بن خلف وقال له : أعطني كفيلا بالخطر{[12429]} إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن ، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم . وقال الشعبي : لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيلهم بالمدائن ، وبنوا رومية ، فقمر{[12430]} أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( تصدق به ) فتصدق به .

وقال المفسرون : إن سبب{[12431]} غلبة الروم فارس امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال ، فقال لها كسرى : أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم ، فقالت : هذا هرمز أروع من ثعلب وأحذر من صقر ، وهذا فرخان أحد من سنان وأنفذ من نبل ، وهذا شهر بزان{[12432]} أحلم من كذا ، فاختر ، قال فاختار الحليم وولاه ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر على الروم . قال عكرمة وغيره : إن شهربزان لما غلب الروم خرب ديارها حتى بلغ الخليج ، فقال أخوه فرخان : لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى ، فكتب كسرى إلى شهر بزان أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل ، فكتب كسرى إلى فارس : إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهربزان ، وكتب إلى فرخان إذا ولي أن يقتل شهربزان ، فأراد فرَّخان قتل شهربزان ، فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان ، فقال شهربزان لفرخان : إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك ، أفتقتلني أنت بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهربزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ومات كسرى . وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين ، فذلك قوله تعالى : " الم . غلبت الروم . في أدنى الأرض " يعني أرض الشام . عكرمة : بأذرعات ، وهي ما بين بلاد العرب والشام . وقيل : إن قيصر كان بعث رجلا يدعى : يحنس ، وبعث كسرى شهربزان ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم . مجاهد : بالجزيرة ، وهو موضع بين العراق والشام . مقاتل : بالأردن وفلسطين . و " أدنى " معناه أقرب . قال ابن عطية : فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :

تَنَوَّرْتُهَا من أذرعاتٍ وأهلُها *** بيثرب أدنى دارها نَظَرٌ عَالِ

وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم . فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب . وقد مضى الكلام في فواتح السور . وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة " غَلَبت الروم " بفتح الغين واللام . وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كانت الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر بذلك المسلمون ، فبشر الله تعالى عباده أنهم سيغلبون أيضا في بضع سنين ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم . قال أبو جعفر النحاس : قراءة أكثر الناس " غلبت الروم " بضم العين وكسر اللام . وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري أنهما قرأ " غَلَبت الروم " وقرأ " سيُغلبون " . وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون : أن هذه قراءة أهل الشام ، وأحمد بن حنبل يقول : إن عصمة هذا ضعيف ، وأبو حاتم كثير الحكاية عنه ، والحديث يدل على أن القراءة " غُلبت " بضم الغين ، وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الروم غلبتها فارس ، فأخبر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، وأن المؤمنين يفرحون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب ، فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله عز وجل به مما لم يكن علموه{[12433]} ، وأمر أبا بكر أن يراهنهم على ذلك وأن يبالغ في الرهان ، ثم حرم الرهان بعد ونسخ بتحريم القمار . قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على " سيغلبون " أنه بفتح الياء ، يراد به الروم . ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا بضم{[12434]} الياء في " سيغلبون " ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به . قال أبو جعفر النحاس : ومن قرأ " سيغلبون " فالمعنى عنده : وفارس من بعد غلبهم ، أي من بعد أن غلبوا ، سيغلبون . وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية ، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان . قاله عكرمة وقتادة . قال ابن عطية : وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين . وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، وفارس{[12435]} من أهل الأوثان ، كما تقدم بيانه في الحديث . قال النحاس : وقول آخر وهو أولى - أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى ؛ إذ كان فيه دليل على النبوة ؛ لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه . قال ابن عطية : ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة ، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ، فتأمل هذا المعنى ، مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم ، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه . وقيل : سرورهم إنما كان بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين ؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي عليه السلام يوم بدر . حكاه القشيري .

قلت : ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك ، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا وبإنجاز وعد الله . وقرأ أبو حيوة الشامي ومحمد بن السميقع " من بعد غلبهم " بسكون اللام ، وهما لغتان ، مثل الظعن والظعن . وزعم الفراء أن الأصل " من بعد غلبتهم " فحذفت التاء كما حذفت في قوله عز وجل " وإقام الصلاة " وأصله وإقامة الصلاة . قال النحاس : " وهذا غلط لا يخيل{[12436]} على كثير من أهل النحو ؛ لأن " إقام الصلاة " مصدر قد حذف منه لاعتلال فعله ، فجعلت التاء عوضا من المحذوف ، و " غلب " ليس بمعتل ولا حذف منه شيء . وقد حكى الأصمعي : طرد طردا ، وجلب جلبا ، وحلب حلبا ، وغلب غلبا ، فأي حذف في هذا ، وهل يجوز أن يقال في أكل أكلا وما أشبهه - : حذف منه " ؟ . " في بضع سنين " حذفت الهاء من " بضع " فرقا بين المذكر والمؤنث ، وقد مضى الكلام فيه في " يوسف " {[12437]} . وفتحت النون من " سنين " لأنه جمع مسلم . ومن العرب من يقول " في بضع سنين " كما يقول في " غسلين " . وجاز أن يجمع سنة جمع من يعقل بالواو والنون والياء والنون ، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا من النقص الذي في واحده ؛ لأن أصل " سنة " سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على أن جمعه . خارج عن قياسه ونمطه ، هذا قول البصريين . ويلزم الفراء أن يضمها لأنه يقول : الضمة دليل على الواو ، وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ، ولا يضمها أحد علمناه .


[12424]:في نسخة الترمذي:" هذا حديث حسن غريب..."
[12425]:في ج و ك: "أو سبع"
[12426]:الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
[12427]:في ج: "الرهان".
[12428]:القلائص: جمع القلوص، وهي الفتية من الإبل.
[12429]:الخطر (بالتحريك): الرهن، وما يخاطر عليه.
[12430]:قمرت الرجل: غلبته.
[12431]:راجع هذا الخبر في تاريخ الطبري ( ج 4 ص 1005 من القسم الأوّل طبع أوربا)
[12432]:هكذا ورد في كتب التفسير. والذي في تاريخ الطبري:" شهر براز".
[12433]:زيادة عن النحاس.
[12434]:في ك: بفتح الياء.
[12435]:في ش: "كالمسلمين، فهم أقرب من أهل الأوثان..."
[12436]:أي لا يشكل، وهو من أخال الشيء اشتبه.
[12437]:راجع ج 9 ص 197.

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

{ في أدنى الأرض } أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب ، وهي في{[52149]} أطراف الشام ، وفي تعيين مكان الغلب - على هذا الوجه -{[52150]} بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم ، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان . وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان ، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين : اتركوا {[52151]}هذا السرور{[52152]} الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال ، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم ، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم ، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً ، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم .

و{[52153]} قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعتب{[52154]} سبحانه أهل مكة ، ونفى عليهم قبح صنيعهم في التغافل{[52155]} عن الاعتبار بحالهم ، وكونهم - مع قلة عددهم - قد منع الله بلدهم{[52156]} عن قاصد نهبه ، وكف أيدي العتاة والمتمردين عنهم مع ( تعاور ) أيدى المنتهين على من حولهم ، وتكرر ذلك واطراده صوناً منه تعالى لحرمه وبيته ، فقال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم }[ العنكبوت : 67 ] أي ولم يكفهم هذا في الاعتبار ، وتبينوا أن ذلك ليس عن قوة منهم ولا حسن دفاع ، وإنما هو{[52157]} بصون الله إياهم بمجاورة بيته وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب ، أفلا يرون هذه النعمة ويقابلونها بالشكر والاستجابة قبل أن يحل{[52158]} بهم نقمة ، ويسلبهم نعمه ، فلما قدم تذكارهم بهذا ، أعقب بذكر طائفة{[52159]} هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلاداً ، وقد أيد عليهم غيرهم ، ولم يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم ، فقالت : { الم غلبت الروم في أدنى الأرض } الآيات ، فذكر تعالى غلبة غيرهم لهم ، وأنهم ستكون لهم كرة{[52160]} ، ثم يغلبون ، وما ذلك{[52161]} إلا بنصر الله من شاء من عبيده { ينصر من يشاء } فلو كشف عن إبصار من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم وأولادهم مما سلط على من حولهم من الانتهاب والقتل وسبي الذراري والحرم إنما هو بمنع الله وكرم صونه لمن جاور حرمه وبيته ، وإلا فالروم أكثر عدداً وأطول مدداً ، ومع ذلك تتكرر{[52162]} عليهم الفتكات والغارات ، وتتوالى{[52163]} عليهم الغلبات ، أفلا يشكر أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ؟ وأيضاً فإنه سبحانه لما قال :{ وما هذه الحياة{[52164]} الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان }[ العنكبوت : 64 ] أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها ، وتبين اضمحلالها ، وأنها لا تصفو ولا تتم ، وإنما حالها أبداً التقلب وعدم الثبات ، فأخبر بأمر{[52165]} هذه الطائفة التي هي من{[52166]} أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهم الروم ، وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم ، فأشبهت حالهم هذه حال اللهو واللعب ، فوجب{[52167]} اعتبار العاقل بذلك وطلبه الحصول على تنعم دار لا ينقلب حالها ، ولا يتوقع انقلابها وزوالها ، { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } ومما يقوي هذا المأخذ{[52168]} قوله تعالى " يعلمون " ظاهراً من الحياة الدنيا أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها{[52169]} لهو ولعب ولعرفوا{[52170]} أمر الآخرة " من عرف نفسه عرف ربه " ومما يشهد لكل من المقصدين{[52171]} ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه : { أولم يسيروا في الأرض } الآيات ، أي لو فعلوا هذا وتأملوا لشاهدوا من تقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة والقرون ما بين{[52172]} لهم عدم إبقائها{[52173]} على أحد {[52174]}فتحققوا لهوها{[52175]} ولعبها وعلموا{[52176]} أن حالهم سيؤول إلى حال من ارتكب مرتكبهم في العناد والتكذيب وسوء البياد{[52177]} والهلاك - انتهى .

ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم{[52178]} من القهر بتبديلهم ، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم ، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم{[52179]} ونسخ بملتهم الملل ، وأدالهم على جميع الدول ، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور العقلاء : { وهم } أي الروم ، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال ، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم{[52180]} : { من بعد غلبهم } الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم{[52181]} ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول { سيغلبون* } فارساً ، فأكد وعده بالسين - وهو غني عن التأكيد - جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم


[52149]:سقط من مد.
[52150]:زيد من ظ ومد.
[52151]:في ظ ومد: السرور بمثل هذا.
[52152]:في ظ ومد: السرور بمثل هذا.
[52153]:زيد من ظ ومد.
[52154]:من ظ ومد، وفي الأصل: أعقب.
[52155]:من ظ ومد، وفي الأصل: الشاغل، وأراه: التشاغل.
[52156]:من ظ ومد، وفي الأصل: بلادهم.
[52157]:سقط من ظ.
[52158]:في ظ: يحلهم.
[52159]:في ظ: طاعته.
[52160]:من ظ ومد، وفي الأصل: ذكرة.
[52161]:في ظ ومد: ذاك.
[52162]:في ظ: تكرر.
[52163]:في ظ: توالي.
[52164]:زيد من ظ ومد والقرآن الكريم آية 64 من سورة العنكبوت.
[52165]:في ظ: بأمن.
[52166]:زيد من ظ ومد.
[52167]:زيد في ظ: الآخرة.
[52168]:في ظ: المأخوذ.
[52169]:في ظ: إنما هو.
[52170]:من ظ ومد، وفي الأصل: يعرفوا.
[52171]:في ظ ومد: القصدين.
[52172]:في ظ ومد: بيين.
[52173]:من ظ ومد، وفي الأصل: إلقائها.
[52174]:من ظ ومد، وفي الأصل: فيتحققوا هواها.
[52175]:من ظ ومد، وفي الأصل: فيتحققوا هواها.
[52176]:زيد من ظ ومد.
[52177]:في ظ ومد: التبار.
[52178]:من ظ ومد، وفي الأصل: الروم.
[52179]:في ظ: الأمر.
[52180]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[52181]:في ظ: بهم ـ كذا.