الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

قوله تعالى : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " قراءة العامة " كل " بالنصب . وقرأ أبو السمال " كل " بالرفع على الابتداء . ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين ؛ لأن إن تطلب الفعل فهي به أولى ، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى ؛ لأنك لو حذفت " خلقناه " المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر . ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء ؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله .

الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء ، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه ، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه ، سبحانه لا إله إلا هو ، ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة ، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا . قال أبو ذر رضي الله عنه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فقالوا : يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا ؟ فقال : ( أنتم خصماء الله يوم القيامة ) .

روى أبو الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم ) . خرجه ابن ماجة في سننه . وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر ) . وأسند النحاس : وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد ابن ميسرة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني ) وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر ، ثم أكد هذا بقوله : والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر . وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين : " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله{[14499]} " [ التوبة : 54 ] وهذا واضح . وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ) .


[14499]:راجع جـ 8 ص 163.