وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب ، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين :
( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد ) . .
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض ، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ? !
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال ؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة ، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن جمودها ، وتحول الموتى عن الموات !
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ؛ وأن يدعوا الأمر لله ، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .
فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم ، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب ، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .
الذي أعطاهم إياه ، وأمهلهم إلى انتهاء أجله :
{ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ، ألم يايئس الذين ءامنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا }
يجوز أن تكون عطفاً على جملة { كذلك أرسلناك في أمة } لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السّلام كما أشار إليه صفة { أمة قد خلت من قبلها أمم } ، فتكون جملة { ولو أن قرآناً } تتمة للجواب عن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } .
ويجوز أن تكون معترضة بين جملة { قل هو ربي } وبين جملة { أفمن هو قائم على كل نفس } [ سورة الرعد : 33 ] كما سيأتي هنالك . ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفاً على جملة { هو ربي لا إله إلا هو } .
والمعنى : لو أن كتاباً من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك ، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية .
وجواب { لو } محذوف لدلالة المقام عليه . وحذفُ جواب { لو } كثير في القرآن كقوله : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ سورة الأنعام : 27 ] وقوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ سورة السجدة : 12 ] .
ويفيد ذلك معنى تعريضياً بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم ، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآناً أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغاً ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب ، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة :
ولو طَارَ ذو حافر قَبلها *** لطارتْ ولكنه لم يَطِر
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس : أن كفار قريش ، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي فقالوا : لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة ، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها ، أو أخرج قصَياً نكلمه .
وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } [ سورة الأنعام : 111 ] ، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم . وعلى هذا يكون { قطعت به الأرض } قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } [ سورة الأنعام : 94 ] .
وجملة { بل لله الأمر جميعاً } عطف على { ولو أن قرآناً } بحرف الإضراب ، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء ، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم ، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم ، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهاً على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه .
ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري : لأحملنّك على الأدهم ( يريد القيد ) . فأجابه القبعثري بأن قال : مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، فصرفه إلى لون فرس .
والأمر هنا : التصرف التكويني ، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئاً مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء .
وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب { بل } من طرق القصر ، فاللام في قوله : { الأمر } للاستغراق ، و { جميعاً } تأكيد له . وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب { بل } العاطفة .
وفرع على الجملتين { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } استفهاماً إنكارياً إنكاراً لانتفاء يَأسي الذين آمنوا ، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً .
وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة { قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } [ سورة الرعد : 27 ] .
و{ ييأس } بمعنى يوقن ويعلم ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع { أن } المصدرية ، وأصله مشتق من اليَأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث ، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة ، ومنه قول سُحَيم بن وَثيل الرياحي :
أقول لهم بالشّعْب إذ يَيْسَرُونَنِي *** ألم تأيسوا أني ابنُ فارس زهدم
وقد قيل : إن استعمال يَئِس بمعنى عَلِم لغة هَوازن أو لغة بنِي وَهْبيل ( فخذ من النخَع سمي باسم جَد ) . وليس هنالك ما يلجىء إلى هذا . هذا إذا جعل { أن لو يشاء الله } مفعولاً ل { ييأس } . ويجوز أن يكون متعلق { ييأسْ } محذوفاً دل عليه المقام . تقديره : مِن إيمان هَؤلاء ، ويكونَ { أن لو يشاء الله } مجروراً بلام تعليل محذوفة . والتقدير : لأنه لو يشاء الله لهدى الناس ، فيكون تعليلاً لإنكار عَدَم يأسهم على تقدير حصوله .
{ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .
معطوفة على جملة { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } على بعض الوجوه في تلك الجملة . وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن ، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به ، فهددوا بما سيحلّ بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلّت فيهم وتخيف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكّة .
واستعمال { لا يزال } في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع ، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض ، فتكون هذه الآية تنبيهاً لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد لله .
ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } [ سورة البقرة : 155 ] .
ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم . وهو لا ملجىء إليه .
والقارعة : في الأصل وصف من القرع ، وهو ضرب جسم بجسم آخر . يقال : قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة . ولما كان القرع يحدث صوتاً مباغتاً يكون مزعجاً لأجل تلك البغتة صار القرع مجازاً للمباغتة والمفاجأة ، ومثله الطّرْق . وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف مُلتزم الحذف اختصاراً لكثرة الاستعمال ، وهو ما يؤوّل بالحادثة أو الكائنة أو النازلة ، كما قالوا : داهية وكارثة ، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعاً على النفس . ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة .
والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها . وهي مِثل الغارة والكارثة تحلّ فيهم فيصيبهم عذابها ، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم ، فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال ، ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة .
ومعنى { بما صنعوا } بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيئَهم . وأتي في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم .
وضمير { تحل } عائد إلى { قارعة } فيكون ترديداً لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريباً من أرضهم فهم في رعب منها وفزع ويجوز أن يكون { تحل } خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنتَ مع الجيش قريباً من دارهم . والحلول : النزول .
وتحُلّ : بضم الحاء مضارع حَلّ اللازم . وقد التزم فيه الضم . وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح لامية الأفعال ، وهو وجيه .
و { وعد الله } من إطلاق المصدر على المفعول ، أي موعود الله ، وهو ما توعدهم به من العذاب ، كما في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ سورة آل عمران : 12 ] ، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم ، فكان المعنى أنه غلبُ القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى . ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح .
وإتيان الوعد : مجاز في وقوعه وحلوله .
وجملة { إن الله لا يخلف الميعاد } تذييل لجملة { حتى يأتي وعد الله } إيذاناً بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع . والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين .