( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه . إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا . . )
فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن ، ولا أن ينتفعوا به . لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه ، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه . وقدر عليهم الضلال - بسبب استهزائهم وإعراضهم - فلن يهتدوا إذن أبدا . فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي .
وقوله { ومن أظلم } استفهام بمعنى التقرير ، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه ، فالمعنى لا أحد { أظلم ممن } هذه صفته ، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير ، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال ، ونسب السيئات إلى اليدين ، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية{[7836]} ، فجعلت كذلك في المعاني ، استعارة ، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم ، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح ، فإنه تعالى : { جعل على قلوبهم أكنة } وهي جمع كنان ، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه ، هل هو حقيقة أو مجاز ، والحقيقة في هذا غير مستحلية ، والتجوز أيضاً فصيح ، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة ، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير ، وأما «الوقر » في الآذان ، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعاً تاماً ، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر ، فلا يسمع ، وشبهوا به ، وكذلك العمى والصم والبكم ، كلها استعارات ، وإنما الخلاف في أوصاف القلب ، هل هي حقيقة أو مجاز ، و «الوقر » : الثقل في السمع ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم ، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبداً ، وهذا يخرج على أحد تأويلين : أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص ، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبداً ، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال ، والآخر أن يريد : وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فلن يؤمنوا جميعاً أبداً ، أي إنهم ربما آمن الأفراد ، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين ، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير .
لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية ، ومن استهزائهم بالإنذار ، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم . ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم ، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة . وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش « إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي ؟ فقالوا : ما جربنا عليك كذباً » فقال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » .
و ( مَنْ ) المجرورةُ موصولة . وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله : { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } . والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه .
وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل .
ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم : أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة ، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً ، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً ، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم .
ف ( مَن ) استفهام مستعمل في الإنكار ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم .
والنسيان : مستعمل في التغاضي عن العمل . وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها } في سورة البقرة ( 106 ) .
ومعنى { ما قدمت يداه } ما أسلفه من الأعمال . وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء ، فصار جارياً مَجرى المثل ، قال تعالى : { ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد } ، وقال : { وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم } .
والآية مصوغة بصيغة العموم ، والمقصود الأول : منها مشركو أهل مكة .
وجملة { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } مستأنفة بيانية نشأت على جملة { ونسي ما قدمت يداه } ، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة . وهو يفيد معنى التعليل بالمآل ، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية .
والقلوب مرادُ بها : مَدارك العلم .
والأكنة : جمع كِنان ، وهو الغِطاء ، لأنه يُكن الشيء ، أي يَحجبه .
و { أن يفقهوه } مجرور بحرف محذوف ، أي مِنْ أن يفقهوه ، لتضمين { أكنة } معنى الحائل أو المانع .
والوقر : ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ .
والضمير المفرد في { يفقهوه } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات .
وجملة { وإن تدعهم إلى الهدى } عطف على جملة { إنا جعلنا على قلوبهم } ، وهي متفرعة عليها ، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل .
وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو ( لن ) ، وبلفظ ( أبدا ) المؤكد لمعنى ( لن ) ، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط .
وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني ، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.