في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا} (4)

في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل ، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض ، تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) . .

وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم ، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ؛ لا أنه قضاء قهري عليهم ، تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد ( قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء ) إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن ، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد ، ولم يكشف عنه الستار .

ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا :

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا} (4)

وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب » على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور «لتُفسِدن » بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي «لَتفسُدُن » بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتُفسَدُن » بضم التاء وفتح السين وضم الدال . وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا .

قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً{[7471]} ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين «المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين{[7472]} ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة .


[7471]:أي شاقا قاسيا.
[7472]:في إحدى النسخ: "وعشرين سنة"، و ما في البحرالمحيط يوافق ما أثبتناه.