وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر ، فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر . الحاضر . الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر ، وتميز الصنعة ، وتفرد الطابع . الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمرا بعد هذه الحياة ، وشأنا غير شأن الأرض . وخاتمة غير خاتمة الموت :
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت ? ) . .
وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة . كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال [ ممثلة لسائر الحيوان ] على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة .
إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبال والحيوان . . وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه . موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها .
والمعجزة كامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها :
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? ) . . والإبل حيوان العربي الأول . عليها يسافر ويحمل . ومنها يشرب ويأكل . ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل . فهي مورده الأول للحياة . ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان . فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد ، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاها ميسر ، وكلفتها ضئيلة ، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال . . ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء . .
لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل ؛ وهي بين أيديهم ، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد . . ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? ) . . أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها ? ثم يتدبرون : كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا ! إنهم لم يخلقوها . وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه ، وتقطع بوجوده ؛ كما تشي بتدبيره وتقديره .
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } قال أهل التفسير : لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه ، فذكر لهم الله تعالى صنعه فقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وكانت الإبل أعظم عيش العرب ، لهم فيها منافع كثيرة ، فلما صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع . وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات ، فقال مقاتل : لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها ، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم . وقال الكلبي : لأنها تنهض بحملها وهي باركة . وقال قتادة : ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها ، فقالوا : كيف يصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية . وسئل الحسن عن هذه الآية ، وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ؟ فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها . ثم هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها ولا يحلب درها ، والإبل من أعز مال العرب وأنفسها تأكل النوى وألقت وتخرج اللبن . وقيل : إنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف ، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا إلى كناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت .
قال المفسرون : لما ذكر اللّه عز وجل أمر أهل الدارين ، تعجب الكفار من ذلك ، فكذبوا وأنكروا ، فذكرهم اللّه صنعته وقدرته ، وأنه قادر على كل شيء ، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض . ثم ذكر الإبل أولا ، لأنها كثيرة في العرب ، ولم يروا الفيلة ، فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خلقه ، قد ذلَّلَه للصغير ، يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك ، فينهض بثقيل حمله ، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره . فأراهم عظيما من خلقه ، مسخرا لصغير من خلقه ، يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته . وعن بعض الحكماء : أنه حدث عن البعير وبديع خلقه ، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها ، ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق . وحين أراد بها أن تكون سفائن البر ، صبرها على احتمال العطش ، حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا ، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز ، مما لا يرعاه سائر البهائم . وقيل : لما ذكر السرر المرفوعة قالوا : كيف نصعدها ؟ فأنزل اللّه هذه الآية ، وبين أن الإبل تبرك حتى يحمل عليها ثم تقوم ، فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع . قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما . وقيل : الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب . قاله المبرد . قال الثعلبي : وقيل في الإبل هنا : السحاب ، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة .
قلت : قد ذكر الأصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب ، قال أبو عمرو : من قرأها " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " بالتخفيف : عنى به البعير ؛ لأنه من ذوات الأربع ، يبرك فتحمل عليه الحمولة ، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم . ومن قرأها بالتثقيل فقال : " الإبل " {[16013]} ، عني بها السحاب التي تحمل الماء والمطر . وقال الماوردي : وفي الإبل وجهان : أحدهما : وهو أظهرهما وأشهرهما : أنها الإبل من النعم . الثاني : أنها السحاب . فإن كان المراد بها السحاب ، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته ، والمنافع العامة لجميع خلقه . وإن كان المراد بها الإبل من النعم ، فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان ؛ لأن ضروبه أربعة : حلوبة ، وركوبة ، وأكولة ، وحمولة . والإبل تجمع هذه الخلال الأربع ، فكانت النعمة بها أعم ، وظهور القدرة فيها أتم . وقال الحسن : إنما خصها اللّه بالذكر لأنها تأكل النوى والقَتّ ، وتخرج اللبن . وسئل الحسن أيضا عنها وقالوا : الفيل أعظم في الأعجوبة : فقال : العرب بعيدة العهد بالفيل ، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ، ولا يركب ظهره ، ولا يحلب دره . وكان شريح يقول : اخرجوا بنا إلى الكناسة{[16014]} حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت . والإبل : لا واحد لها من لفظها ، وهي مؤنثة ؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها ، إذا كانت لغير الآدميين ، فالتأنيث لها لازم ، وإذا صغرتها دخلتها الهاء ، فقلت : أبيلة وغنيمة ، ونحو ذلك . وربما قالوا للإبل : إبل ، بسكون الباء للتخفيف ، والجمع : آبال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.