{ وقال اركبوا فيها } أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض . { بسم الله مجراها ومرساها } متصل ب { اركبوا } حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها ، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو المصدر ، والمضاف محذوف كقولهم : آتيك خفوق النجم ، وانتصابهما بما قدرناه حالا ويجوز رفعهما ب { بسم الله } على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ وخبر ، أي إجراؤها { بسم الله } على أن { بسم الله } خير أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء . وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست . ويجوز أن يكون الاسم مقحما كقوله :
ثم اسم السّلام عليكما *** . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية حفص { مجراها } بالفتح من جرى وقرئ { مرساها } أيضا من رسا وكلاهما يحتمل الثلاثة و " مجريها ومرسيها " بلفظ الفاعل صفتين لله . { إن ربي لغفور رحيم } أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم .
المعنى { وقال } نوح - حين أمر بالحمل في السفينة - لمن آمن معه : { اركبوا فيها } ؛ فأنث الضمير ، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر .
وفي مصحف أبيّ «على اسم الله » . وقوله : { بسم الله } يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله : { اركبوا } كما تقول : خرج زيد بثيابه وبسلاحه ، أي اركبوا متبركين بالله تعالى ، ويكون قوله : { مجراها ومرساها } ظرفين ، أي وقت إجرائها وإرسائها . كما تقول العرب : الحمد لله سرارك وإهلالك{[6344]} وخفوق النجم ومقدم الحاج ، فهذه ظرفية زمان ، والعامل في هذا الظرف ما في { بسم الله } من معنى الفعل ، ويصح أن يكون قوله : { بسم الله } في موضع خبر و { مجراها ومرساها } ابتداء مصدران كأنه قال : اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها ، وتكون هذه الجملة - على هذا - في موضع حال من الضمير في قوله { فيها } ، ولا يصح أن يكون حالاً من الضمير في قوله : { اركبوا } لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه : وعلى هذا التأويل قال الضحاك : إن نوحاً كان إذا أراد جري السفينة قال : { بسم الله } ، فتجري وإذا أراد وقوفها قال : { بسم الله } فتقف .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم - في رواية أبي بكر وابن عامر : «مُجراها ومُرساها » بضم الميمين على معنى إجرائها وإرسائهما ، وهي قراءة مجاهد وأبي رجاء والحسن والأعرج وشيبة وجمهور الناس ، ومن ذلك قول لبيد : [ الكامل ] .
وعمرت حرساً قبل مجرى داحس*** لو كان للنفس اللجوج خلود{[6345]}
وقرأ حمزة والكسائي وحفص بن عاصم : «مَجراها » بفتح الميم وكسر الراء ، وكلهم{[6346]} ضم الميم من «مُرساها » وقرأ الأعمش وابن مسعود «مَجراها ومَرساها » بفتح الميمين ، وذلك من الجري والرسو ؛ وهذه ظرفية مكان ، ومن ذلك قول عنترة : [ الكامل ]
فصبرت نفساً عند ذلك حرة*** ترسو إذا نفس الجبان تطلع{[6347]}
واختار الطبري قراءة «مَجريها وُمرساها » بفتح الميم الأولى وضم الثانية ، ورجحها بقوله تعالى : { وهي تجري } ، ولم يقرأ أحد ، «تجري » وهي قراءة ابن مسعود أيضاً رواها عنه أبو وائل ومسروق . وقرأ ابن وثاب وأبو رجاء العطاردي والنخعي والجحدري والكلبي والضحاك بن مزاحم ومسلم بن جندب وأهل الشام : «مجريها ومرسيها » وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله { بسم الله }{[6344]} .
وقوله { إن ربي لغفور رحيم } تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال اركبوا فيها} في السفينة {بسم الله} إذا ركبتموها، فقولوا: بسم الله {مجراها} حين تجري، {ومرساها} حين تحبس، {إن ربي لغفور} للذنوب، {رحيم} بنا حين نجانا من العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك بسم الله "مَجراها ومُرْساها". وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه، وهو قوله: "قُلْنا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلَ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مْنهُمْ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ "فحملهم نوح فيها وقال لهم: اركبوا فيها، فاستغني بدلالة قوله: "وَقالَ ارْكَبُوا فِيها" عن حمله إياهم فيها، فترك ذكره.
واختلفت القراء في قراءة قوله: "بسْمِ اللّهِ مَجْرَاها وَمُرْساها"؛
فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: «بِسْمِ اللّهِ مُجْرَاها ومُرْساها» بضمّ الميم في الحرفين كليهما؛ وإذا قرئ كذلك كان من "أجرى" "وأرسى"... بمعنى: بسم الله إجراؤها وإرساؤها... [أو] بمعنى: بسم الله عند إجرائها وإرسائها، أو وقت إجرائها وإرسائها...
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: "بسْمِ اللّهِ مَجْرَاها وَمُرْساها" بفتح الميم من «مَجْراها»، وضمها من «مُرْساها»، فجعلوا «مجراها» مصدرا من جري يجري مَجْرًى، ومُرساها من أرسَى يُرْسِي إرساءً. وإذا قرئ ذلك كذلك كان في إعرابهما من الوجهين نحو الذي فيهما إذا قرئا: «مُجراها ومُرساها» بضم الميم فيهما على ما بيّنت.
ورُوي عن أبي رجاء العُطاردي أنه كان يقرأ ذلك: «بِسمِ اللّهِ مُجْرِيها وَمُرْسِيها» بضمّ الميم فيهما، ويصيرهما نعتا لله... لأن معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرِي الفلك ومُرسِيها، فالمُجْرِي نعت لاسم الله... وقد ذُكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: «مَجْراها ومَرْساها»، بفتح الميم فيهما جميعا، مِنْ جَرَى ورَسَا كأنه وجهه إلى أنه في حال جريها وحال رسوها، وجعل كلتا الصفتين للفُلْك...
والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ: "بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاها" بفتح الميم "وَمُرْساها" بضم الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسِي. وإنما اخترت الفتح في ميم «مَجْراها» لقرب ذلك من قوله: "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبالِ" ولم يقل: تُجْرَى بهم. ومن قرأ: «بِسْمِ اللّهِ مُجْراها» كان الصواب على قراءته أن يقرأ: وهي تُجْرَى بهم. وفي إجماعهم على قراءة «تجري» بفتح التاء دليل واضح على أن الوجه في «مَجراها» فتح الميم. وإنما اخترنا الضم في «مُرساها» لإجماع الحجة من القرّاء على ضمها. ومعنى قوله "مَجْراها": مسيرها، "وَمُرْساها": وَقْفها، من وقفها الله وأرساها...
وقوله: "إنّ رَبي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه رحيم بهم أن يعذّبهم بعد التوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) يحتمل قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) أنه قال لهم نوح: (اركبوا فيها) وقولوا: (بسم الله الله مجراها ومرساها) وهو كقول الناس: بسم الله من أوله على ما يقال، ويذكر اسم الله في افتتاح كل أمر وكل عمل من ركوب ونزول وغيره. ويحتمل قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) أي بالله مجراها ومرساها، أي به تجري، وبه ترسو، وإنه ليس كسائر السفن التي بأهلها تجري، وبهم تقف، وهم الذين يتولون، ويتكلفون إجراءها ووقوفها. وأما سفينة نوح كانت جريتها بالله، وبه رسوها، لا صنع لهم في ذلك، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَرَفَ أَنَّ نجاتَه من القَطْرةِ لمَّا تقَاطرَتْ ليست بالحِيَلِ- وإنْ تَنوّعَتْ وكَثُرَتْ، فباسم اللّهِ سلامتُه، وبتوكلِه على الله نجاتُه وراحتُه، وبتفضله- سبحانه- صلاحُه وعافيته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها... ويجوز... بسم الله إجراؤها وإرساؤها...
معناه أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته...
{إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وَذَلِكَ نَصٌّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ أَمْرٍ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ مَعَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنِّيَّةِ، وَمِنْ أَشَدِّهِ فِي النَّدْبِ ذِكْرُ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَمِنْ الْوُجُوبِ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْدِيدِ مَوَاضِعِهِ...
...أخبرهم بأن مجريها ومرساها ليس إلا بسم الله وأمره وقدرته؛
فالمعنى الأول: يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يشرع في أمر من الأمور إلا ويكون في وقت الشروع فيه ذاكرا لاسم الله تعالى بالأذكار المقدسة حتى يكون ببركة ذلك الذكر سببا لتمام ذلك المقصود.
والمعنى الثاني: يدل على أنه لما ركب السفينة أخبر القوم بأن السفينة ليست سببا لحصول النجاة. بل الواجب ربط الهمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى، وأخبرهم أنه تعالى هو المجري والمرسي للسفينة، فإياكم أن تعولوا على السفينة، بل يجب أن يكون تعويلكم على فضل الله فإنه هو المجري والمرسي لها.
فعلى التقدير الأول: كان نوح عليه السلام وقت ركوب السفينة في مقام الذكر، وعلى التقدير الثاني: كان في مقام الفكر والبراءة عن الحول والقوة وقطع النظر عن الأسباب واستغراق القلب في نور جلال مسبب الأسباب...
وأما قوله: {إن ربى لغفور رحيم} ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر؟ وجوابه: لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة عملنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم، فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات، وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، وأن يكون رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتاه الأمر بذلك، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة بعد أن هيأها لهم {وقال} أي لمن أمر بحمله {اركبوا} ولما كانت الظرفية أغلب على السفينة قال: {فيها} أي السفينة؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا، استأنف قوله، أو أمرهم بالركوب قائلين: {بسم الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {مجراها ومرساها} أي إجراءها وإرساءها ومحلهما ووقتهما... ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافاً بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله: {إن ربي} أي المحسن إلي بما دبر من هذا الأمر وغيره، وزاد في التأكيد تطبيباً لقلوب من معه معرفاً لهم بأن أحداً لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران. فقال: {لغفور} أي بالغ الستر للزلات والهفوات {رحيم} أي بالغ الإكرام لمن يريد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها} يقال ركب الدابة والسفينة وركب على الدابة لأنه يعلوها، وفي السفينة لأنه يكون مظروفا فيها وإن جلس على ظهرها وهو المستعمل في القرآن، قرأ بعض أئمة القراء [مجراها] بفتح الميم بإمالة الراء وتركها وهو مصدر ميمي لجرت السفينة تجري موافق لقوله الآتي [وهي تجري بهم] وقرأها الآخرون بضم الميم وهو مصدر ميمي لأجرى على إرادة إجراء الله تعالى لها. وقرأوا كلهم [مرساها] بضم الميم بمعنى أن الله تعالى هو الذي سيرسيها، ورسو السفينة وقوفها، والمجرى والمرسى يجيئان اسمي زمان ومكان أيضا. وهذه الجملة يحتمل أن يكون قالها نوح عليه السلام عند أمرهم بركوب السفينة معه امتثالا لأمر الله تعالى في الآية قبلها فتكون بشارة لهم بحفظه تعالى لها ولهم، أي باسم لله جريانها وإرساؤها فهو الذي يتولى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، ويحتمل أن يكون أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير: اركبوا فيها قائلين باسم الله، أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجري أو حين يجريها، ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا قوتنا.
{إن ربي لغفور رحيم} أي إنه لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم جميعهم بذنوبهم وتقصيرهم، وإنما يهلك الكافرين الظالمين وحدهم، رحيم بهم بما سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته، أخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وغيرهم عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن) {باسم الله مجراها} -{وما قدروا الله حق قدره} والظاهر أن المراد بالآية الثانية آية سورة الزمر [39: 67] والله أعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقال: اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها.. وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها، فهي في رعاية الله وحماه.. وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان؟!...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في بداية هذا الربع يواصل كتاب الله الحديث عن المرحلة الأخيرة من قصة نوح عليه السلام. ويحكي لنا أن نوحا عندما أراد أن يركب السفينة التي صنعها بوحي من ربه لم ينس ما عليه من واجب الشكر لله، والتوكل على الله، فأمر المتأهبين للركوب معه عند ركوبهم "سفينة النجاة "أن يذكروا عند ركوبهم اسم الله عليها، وأن يحصنوها باسمه الأقدس من كل سوء ينزل بها، حتى يتم جري سفينة نوح ورسوها في أحسن الأحوال، ولا ينالها أي أذى من الأمواج المتلاطمة والشامخة كالجبال، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم، وهي تجري بهم في موج كالجبال}...
نوح عليه السلام يقول: {بسم الله مجراها ومرساها} لأن السفينة لله أمر، ولرسوله صناعة. ولذلك يقال:"كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبتر". لأنك حين تقبل على فعل شيء، فالأفعال أو الأحداث تحتاج إلى طاقات متعددة، فإن كان الفعل عضليا، فهو يحتاج لقوة، وإن كان الفعل عقليا فهو يحتاج لفكر وروية وأناة، وإن كان فعلا فيه مواجهة لأهل الجاه فهو يحتاج إلى شجاعة، وإن كان من أجل تصفية نفوس فهو يحتاج إلى الحلم. إذن: فاحتياجات الأحداث كثيرة ومختلفة، ومن أجل أن تحصل على القوة فقد تقول: "باسم القوي القادر "ولكي تحصل على علم؛ تقول:"باسم العليم"، وتريد الغنى؛ فتقول: "باسم الغني "وحين تحتاج إلى الحلم تقول: "باسم الحليم"، وعندما تحتاج إلى الشجاعة؛ تقول:"باسم القهار". وقد يحتاج الفعل الواحد لأشياء كثيرة، والذي يغني عن كل ذلك أن تنادي ربك وتتبرك باسم واجد الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ففيه تنطوي كل صفات الكمال والجلال. وإياك أن تتهيب أو تستحي، بل ادخل على كل أمر باسم الله...
وقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {إن ربي لغفور رحيم}: إنما يقصد أن هؤلاء المؤمنين برسالة نوح كانوا من البشر، ولم يطبقوا- كغالبية البشر- كل التكاليف؛ لأنهم ليسوا ملائكة، لذلك قدر الحق سبحانه وتعالى إيمانهم وعفا عن بعض الذنوب التي ارتكبوها ولم يؤاخذهم بها. هذه هي الميزة في قول: "بسم الله الرحمن الرحيم"...