ومن هذه الجولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما . وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل ، وفي محتوياته المنوعة ، الشاملة للأحياء والأشياء ، والأفلاك والأجرام ، والنجوم والكواكب ، والجليل والصغير ، والخافي والظاهر ، والمعلوم والمجهول . . . من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان ، وأبعاد التاريخ ، يرون فيها طرفا من سنة الله الجارية ، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد :
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، كانوا أشد منهم قوة ؛ وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ؛ وجاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى ، أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون . .
وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين ؛ وهم ناس من الناس ، وخلق من خلق الله ، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية . فسنة الله هي سنة الله في الجميع . وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود ، بلا محاباة لجيل من الناس ، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب . حاشا لله رب العالمين !
وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان ، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون . كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته ، وقيمه وتصوراته ، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا ، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا ؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا .
فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة ( كانوا أشد منهم قوة ) . . ( وأثاروا الأرض ) . . فحرثوها وشقوا عن باطنها ، وكشفوا عن ذخائرها ( وعمروها أكثر مما عمروها ) . . فقد كانوا أكثر حضارة من العرب ، وأقدر منهم على عمارة الأرض . . . ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه : ( وجاءتهم رسلهم بالبينات ) . . ، فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات ؛ و لم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق . فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ؛ ولم تنفعهم قوتهم ؛ ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم ؛ ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه : ( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .
ولما أقام عليهم الدليل ، أتبعه التهديد والتهويل ، فقال عاطفاً على " أولم يتفكروا " { أولم يسيروا } ولما أحاطت آثار المكذبين بمكة المشرفة شرقاً وغرباً ، وجنوباً وشمالاً ، بديار ثمود وقوم فرعون وعاد وسبأ وقوم ولوط ، عرف وأطلق فقال : { في الأرض } أي{[52690]} سير اعتبار وتأمل{[52691]} وادكار من أي جهة أرادوا ، وفيه إشارة إلى أنهم واقفون عند النظر في ظاهر الملك بأبصارهم ، قاصرون عن{[52692]} الاعتبار في باطن الملكوت بأفكارهم ، وفيه هزٌّ لهم إلى امتطاء هذه الدرجة العلية ، بهذه العبارة الجلية { فينظروا } .
ولما كان ما حل بالماضين أمراً عظيماً ، نبه على عظمه بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال : { كيف كان } أي كوناً لا قدرة على الانفكاك عنه ، وتذكير الفعل يشير{[52693]} إلى عظم الأمر { عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولا كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له ، أثبت الجار فقال : { من قبلهم } في{[52694]} إهلاك العاصي وإنجاء الطائع ، ولما كان{[52695]} علم العاقبة مشروطاً بمعرفة البادئة قال مستأنفاً : { كانوا } أي كوناً هو في غاية المكنة .
ولما كان السياق للظهور والغلبة التي إنما مدارها على الشدة المقتضية للثبات ، لا الكثرة العارية عنها ، أعرض عنها وقال مسقطاً ضمير الفصل لأن هذا السياق لا يظهر فيه ادعاء العرب لعلوهم على فارس ولا الروم{[52696]} : { أشدَّ منهم } أي من العرب { قوة } أي في أبدانهم وعقولهم ، ولما كان التقدير : فنقبوا الجبال ، وعملوا من متقن الصنائع التي ترونها من الأعمال ما لم يدانيه أحد من الأجيال ، عطف عليه قوله : { وأثاروا } بالحرث{[52697]} وغيره { الأرض } فأخرجوا ما فيها من المنافع من{[52698]} المياه والمعادن والزروع وغير ذلك من المعاون { وعمروها } أي أولئك السالفون { أكثر مما عمروها } أي هؤلاء الذين أرسلت إليهم ، بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر ، فإن بلاد العرب إنما هي جبال سود وفيافي غبر ، فما هو إلا تهكم بهم ، وبيان لضعف حالهم{[52699]} في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها .
ولما كانوا قد وقفوا مثل هؤلاء مع السبب الأدنى ، ولم يرتقوا بعقولهم إلى المطلوب الأعلى ، أخبر أنه أرسل إليهم الدعاة ينبهونهم من رقدتهم ، وينقذونهم من غفلتهم ، فكان التقدير : فضلوا عن المنهج الواضح ، وعموا عن السبيل الرحب ، وزاغوا عن طريق{[52700]} الرب ، فأرسلنا إليهم الرسل ، فعطف عليه قوله{[52701]} مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعف عقولهم بتكذيبهم الرسل كما تقدم إيضاحه عند
{ تلك الرسل }[ البقرة : 253 ] : { وجاءتهم رسلهم } أي عنا { بالبينات } من المعجزات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة ، وأمورنا الخارقة ، كأمر{[52702]} الإسراء وما أظهر فيه{[52703]} من الغرائب كالإخبار بأن العير تقدم في يوم كذا يقدمها جمل صفته كذا وغرائره كذا ، فظهر كذلك ، وما آمنتم كما لم يؤمن من كان أشد منكم قوة { فما } أي بسبب أنه ما { كان الله } على ما له من أوصاف الكمال مريداً { ليظلمهم } بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم{[52704]} يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات { ولكن كانوا } بغاية جهدهم { أنفسهم } أي خاصة { يظلمون } أي يجددون الظلم لها بإيقاع الضر موقع{[52705]} جلب النفع ، لأنهم{[52706]} لا يعتبرون بعقولهم التي ركبناها فيهم ليستضيؤا بها فيعلموا الحق من الباطل ، ولا يقبلون من الهداة إذا كشفوا لهم{[52707]} ما عليها من الغطاء ، ولا يرجعون عن الغي إذا اضطروهم بالآيات الباهرات ، بل ينتقلون من الغفلة إلى العناد .
قوله : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ لهؤلاء المشركين الجاحدين الذين يكذبون بيوم الدين وينكرون نبوة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلقد سار هؤلاء المكذبون الضالون في طريقهم إلى البلاد الأخرى تجارا ، ورأوا ما حل بالأمم من قبلهم من خراب ودمار . أفلم يتدبروا ما رأوه فيخشوا ويزدجروا عن كفرهم وعصيانهم ؟ . أفلا يخافون أن يحيق بهم ما حاق بالسابقين من تدمير وهلاك بسبب عصيانهم وتكذيبهم أنبياءهم الذين أرسلوا إليهم هداة مرشدين ؟ .
قوله : { كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } فقد كانوا أكثر من هؤلاء أموالا وأولادا ، وأشد منهم بُنية وأجساما ، وأطول أعمارا .
قوله : { وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } إعمار الأرض تهيئتها للحرث والزراعة ؛ فقد عمر السابقون الأرض ؛ أي حرثوها لمزاولة الزراعة فيها أكثر مما عمرها هؤلاء وهم مشركوا مكة ؛ إذ لم يكونوا أهل حرث أو زراعة .
قوله : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } جاءهم المرسلون بالآيات الواضحة والدلائل الظاهرة على صدق ما جاءوهم به من عند الله لكنهم كذبوهم وجحدوا رسالتهم وأنكروا حججهم وبيناتهم فأنزل الله فيهم عذابه . فما أغنى عنهم بأسهم ولا قوتهم ولا أموالهم ؛ بل أخذهم الله بالتدمير والإبادة { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لم يعذبهم الله من غير ذنب فعلوه . ولكن يعذبهم بكفرهم وتكذيبهم وكبير معاصيهم .