في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا} (9)

( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) . .

فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة ، تتجه إلى الله تطلب رضاه . ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا ، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء . كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس ، تتوقعه وتخشاه ، وتتقيه بهذا الوقاء . وقد دلهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عليه وهو يقول : " اتق النار ولو بشق تمرة " . .

وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة ، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج . ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف ، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة . إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب ، وحيوية العاطفة ، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله ، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة !

ولقد تنظم الضرائب ، وتفرض التكاليف ، وتخصص للضمان الاجتماعي ، ولإسعاف المحاويج ، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات ، والذي توخاه بفريضة الزكاة . . هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين . . هذا شطر . . والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين ، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم . وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه ، ويقال : إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين .

إن الإسلام عقيدة قلوب ، ومنهج تربية لهذه القلوب . والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه . فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين .

ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا} (9)

المعنى :

{ إنما نطعمكم لوجه الله } لا نريد منكم جزاء تجازوننا به في يوم ما من الأيام ولا شكورا ينالنا منكم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا} (9)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إنما نطعمكم لوجه الله} يعني لمرضاة الله تعالى.

{لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} يعني أن تثنوا به علينا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"إنمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ "يقول تعالى ذكره: يقولون: إنما نطعمكم إذا هم أطعموهم لوجه الله، يعنون طلب رضا الله، والقُربة إليه.

"لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورَا": يقولون للذين يطعمونهم ذلك الطعام: لا نريد منكم أيها الناس على إطعامناكم ثوابا ولا شكورا.

عن مجاهد "إنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورا" قال: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولا باللسان منعاً لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله؛ فلا معنى لمكافأة الخلق. وأن يكون قولهم لهم لطفاً وتفقيها وتنبيهاً، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله، وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء، دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله. ويجوز أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا).. فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه. ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء. كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء. وقد دلهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عليه وهو يقول: "اتق النار ولو بشق تمرة".. وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج. ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة. إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة! ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم. وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين. إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب. والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه. فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين. ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} حيث التعبير عن الرغبة في القرب إليه، فهم يقدمونه لله عندما يقدّمونه لهم ابتغاء مرضاته بعيداً عن النوازع الذاتية، {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} لا التعويض المادي ولا المعنوي، فهي الرحمة العميقة في القلب المنفتح على الناس من خلال انفتاحه على الله، وهي الروح التي تعيش العطاء كرسالةٍ روحيةٍ تتحسّس حاجات الآخرين وآلامهم، ولذا فإنها تبذل وتبذل، وتتدفّق بالخير كله تماماً كما هو الينبوع عندما يتدفق بالماء إلى الأرض العطشى، وكما هي الشمس تبذل النور إلى كل الآفاق المظلمة التي تتطلّع إلى رحاب الشروق.

بين سموّ العطاء والخوف من الله

وهذا ما تنطلق فيه التربية الإسلامية للشخصية الإنسانية من أجل أن يكون العطاء عنصراً ذاتياً في الإنسان، بحيث يتحرك في ذاته بشكلٍ عفويٍّ، وأن يكون الدافع الأساس في ذلك كله هو ابتغاء وجه الله، حيث ينفتح على الله كما لم ينفتح على غيره، فهو الوجود كله ولا وجود لغيره، وهو الغاية في كل شيء ولا قيمة لسواه، فتكبر الأشياء لديه إذا ارتبطت بالله، وتصغر الأمور عنده إذا انفصلت عن الله، وتتلوّن حياته بهذا اللون السماويّ المشبع بالصفاء، فلا معنى للحياة إلا إذا التقت بالله في مواقع الحياة.

وإذا كان الهدف هو ابتغاء وجه الله في عمق المحبة، فإن الخوف منه قد يؤكِّد الارتباط الروحي من جهة أخرى، فهؤلاء الناس الذين يتمثلون في هذا النموذج الإنساني، يتطلعون إلى اليوم الآخر في أهواله ومشاهده العابسة المرعبة، فيدفعهم الخوف منه إلى الوقوف في خط المسؤولية، فيقدّمون كل شيء لديهم من أجل أن يتخلصوا من عذاب الله في ذلك اليوم.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا} (9)

قوله تعالى : " إنما نطعمكم لوجه الله " أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير " إنما نطعمكم " في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه . " لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " " لا نريد منكم جزاء " أي مكافأة . " ولا شكورا " أي ولا أن تثنوا علينا بذلك . قال ابن عباس : كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا . وعن سالم عن مجاهد قال : أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم ؛ ليرغب في ذلك راغب . وقاله سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري . وقيل : إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به . وقيل : نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين : أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم . ذكره الماوردي . وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا . وقال أبو حمزة الثمالي : بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود ؛ فقال : ( والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله ، وأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت المرأة : أطعمه واسقه . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتيم فقال : يا رسول الله ! أطعمني فإني مجهود . فقال : ( ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب ) فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة : أطعمه واسقه ، فأطعمه . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أسير فقال : يا رسول الله ! أطعمني فإني مجهود . فقال : ( والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب ) فجاء الأنصاري فطلب ، فقالت المرأة : أطعمه واسقه . فنزلت : " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " ذكره الثعلبي . وقال أهل التفسير : نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة .

قلت : والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلا حسنا ، فهي عامة .

وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت ، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل : " يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا . ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " قال : مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعادهما عامة العرب ؛ فقالوا : يا أبا الحسن - ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال : مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا أبا الحسن - رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم - لو نذرت عن ولديك شيئا ، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء . فقال رضي الله عنه : إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا . وقالت جارية لهم نوبية : إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا . وقالت فاطمة مثل ذلك . وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين : علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير ، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري ، وكان يهوديا ، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير ، فجاء به ، فوضعه ناحية البيت ، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه . وفي حديث الجعفي : فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص ، لكل واحد منهم قرص ، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش ؛ إذ أتاهم مسكين ، فوقف بالباب وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد - في حديث الجعفي - أنا مسكين من مساكين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنا والله جائع ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة . فسمعه علي رضي الله عنه ، فأنشأ يقول{[15674]} :

فاطمَ ذات الفضلِ واليَقِين *** يا بنت خير الناس أجمعينْ

أما تَرَيْنَ البائس المسكين *** قد قام بالباب له حنين

يشكو إلى الله ويستكين *** يشكو إلينا جائعٌ حزين

كل امرئ بكسبه رهين *** وفاعل الخيرات يستبين

موعدنا جنة عليين *** حرمها الله على الضَّنِين

وللبخيل موقف مهين *** تهوى به النار إلى سجين

شرابه الحميم والغسلين *** من يفعل الخير يقم سمين

ويدخل الجنة أي حين

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول :

أمرك عندي يا ابن عم طاعهْ *** ما بي من لؤم ولا وَضَاعَهْ

غَدَيْتُ في الخبز له صناعه *** أطعمه ولا أبالي الساعه

أرجو إذا أشبعتُ ذا المجاعه *** أن ألحق الأخيار والجماعه

وأدخل الجنة لي شفاعه

فأطعموه الطعام ، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح ، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم ، فوقف بالباب يتيم فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة{[15675]} . أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة . فسمعه علي فأنشأ يقول :

فاطمَ بنت السيد الكريم *** بنت نبي ليس بالزنيم

لقد أتى الله بذي اليتيم *** من يرحم اليوم يكن رحيم

ويدخل الجنة أي سليم *** قد حرم الخلد على اللئيم

ألا يجوز الصراط المستقيم *** يزل في النار إلى الجحيم

شرابه الصديد والحميم

فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول :

أطعمه اليوم ولا أبالي *** وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهمُ أشبالي *** أصغرهم يقتل في القتال

بِكَرْبَلا يُقْتَلُ باغتيال *** يا ويل للقاتل مع وبال

تهوي به النار إلى سِفَالِ *** وفي يديه الغل والأغلال

كبولة زادت على الأكبال

فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح ، فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى المنزل ، فوضع الطعام بين أيديهم ؛ إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا ! أطعموني فإني أسير محمد . فسمعه علي فأنشأ يقول :

فاطمَ يا بنت النبي أحمد *** بنت نبي سيد مسود

وسماه الله فهو محمد *** قد زانه الله بحسن أغيد

هذا أسير للنبي المهتد *** مثقل في غله مقيد

يشكو إلينا الجوع قد تمدد *** من يطعم اليوم يجده في غد

عند العلي الواحد الموحد *** ما يزرع الزارع سوف يحصد

أعطيه لا لا تجعليه أقعد

فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول :

لم يبق مما جاء غير صاع *** قد ذهبت كفي مع الذراع

ابناي والله هما جياع *** يا رب لا تتركهما ضياع

أبوهما للخير ذو اصطناع *** يصطنع المعروف بابتداع

عَبْلُ الذراعين شديد الباع *** وما على رأسي من قناع

إلا قناعا نسجُهُ أنساعْ{[15676]}

فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح ، فلما أن كان في اليوم الرابع ، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن ، وبيده اليسرى الحسين ، وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، فلما أبصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة ] فانطلقوا إليها وهي في محرابها ، وقد لصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها من شدة الجوع ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال : [ واغوثاه يا الله ، أهل بيت محمد يموتون جوعا ] فهبط جبريل عليه السلام وقال : السلام عليك ، ربك يقرئك السلام يا محمد ، خذه هنيئا في أهل بيتك . قال : ( وما آخذ يا جبريل ) فأقرأه " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " إلى قوله : " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول : فهذا حديث مزوق مزيف ، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين ، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة ، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم ، وقد قال الله تعالى في تنزيله : " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " [ البقرة : 219 ] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك ، وجرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بأن [ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ] . [ وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن ؟ حتى تضوروا من الجوع ، وغارت العيون منهم ؛ لخلاء أجوافهم ، حتى أبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد . هب أنه آثر على نفسه هذا السائل ، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك ؟ ! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن ؟ ! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال ، أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا . وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة ، وإجابة كل واحد منهما صاحبه ، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة ؟

فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى بلغني أن قوما يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة ، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه ، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة ، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها ، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة ، وآفة الدين وكيده أكثر .


[15674]:هذه الأبيات والتي بعدها كل النسخ مجمعة على تحريفها، ولقد أحسن أبو حيان إذ يقول فيها: وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جدا، ظاهرة الاختلاف، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير يخاطبون بها بيت النبوة، وأشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسخافة معانيها. وسيأتي للمؤلف رحمه الله ما يضعف هذا الحديث ويزيفه.
[15675]:كذا في الأصل.
[15676]:النسع ـ بالكسر ـ : سير يضفر على هيئة أعنة النعال، تشد به الرحال.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا} (9)

{ إنما نطعمكم } أيها المحتاجون { لوجه الله } أي لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا{[70610]} بذلك ، وعبر به لأن الوجه{[70611]} يستحى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته .

ولما أثبتوا بهذا الإخلاص ، حققوه بنفي ما يغير فيه ، وفسروه بما لا يكون إلا به فقالوا : { لا نريد منكم } أي لأجل ذلك { جزاء } أي لنا من أعراض الدنيا { ولا شكوراً * } بشيء من قول{[70612]} ولا فعل ، وكأنه اختير هذا المصدر المزيد-{[70613]} كالدخول والخروج والقعود إيماءً إلى أن المنفي ما يتكلف له ، وأما مثل المحبة والدعاء فلا ، ولو أرادوا شيئاً من ذلك لما كان لله ، وروي{[70614]} في سبب نزول هذه الآية : " أن علياً وابنيه وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين آثروا على أنفسهم ثلاثة أيام ، وأصبحوا الرابع يرتعشون ، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ساءه ذلك ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه السورة مهنئاً{[70615]} له بها " ولا يستبعد الصبر على الجوع هذه المدة لأنه ربما كانت للنفس هيئة قوية من استغراق في محبة الله تعالى أو غير ذلك ، فهبطت إلى البدن فشغلت الطبيعة عن تحليل الأجزاء فلا يحصل الجوع كما أنا نشاهد الإنسان يبقى في المرض الحاد مدة من غير تناول شيء من غذاء ولا يتأثر بدنه لذلك ، فلا بدع أن تقف-{[70616]} الأفعال الطبيعية في حق بعض السالكين وهو أحد القولين في قول النبي صلى الله عليه وسلم " إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " .


[70610]:من ظ، وفي الأصل و م: آمرا.
[70611]:زيد في م: الذي.
[70612]:من ظ و م، وفي الأصل: القول.
[70613]:زيد من ظ و م.
[70614]:راجع أيضا المعالم 7/159.
[70615]:في ظ: مرسلا.
[70616]:من ظ و م، وفي الأصل: أحد.