وانتهت دعوة إبراهيم لقومه ، والمعجزة التي لا شك فيها . انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط . ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات . وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق ، إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام :
( فآمن له لوط ، وقال : إني مهاجر إلى ربي ، إنه هو العزيز الحكيم ) . .
ونقف أمام قولة لوط : ( إني مهاجر إلى ربي ) . . لنرى فيم هاجر . إنه لم يهاجر للنجاة . ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة . إنما هاجر إلى ربه . هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه . هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه . هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره ، بعيدا عن موطن الكفر والضلال . بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال .
يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم : أنه آمن له لوط ، يقال : إنه ابن أخي إبراهيم ، يقولون هو : لوط بن هاران بن آزر ، يعني : ولم يؤمن به من قومه سواه ، وسارة امرأة [ إبراهيم ]{[22538]} الخليل . لكن يقال : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين الحديث الوارد في الصحيح{[22539]} : أن إبراهيم حين مَرّ على ذلك الجبار ، فسأل إبراهيم عن سارة : ما هي منه ؟ فقال : [ هي ]{[22540]} أختي ، ثم جاء إليها فقال لها : إني قد قلت له : " إنك : أختي " ، فلا تكذبيني ، فإنه ليس على وجه الأرض [ أحد ]{[22541]} مؤمن غيرك وغيري{[22542]} ، فأنت أختي في الدين . وكأن المراد من هذا - والله أعلم - أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك ، فإن لوطا عليه السلام ، آمن به من قومه ، وهاجر معه إلى بلاد الشام ، ثم أرسِل في حياة الخليل إلى أهل " سَدوم " وإقليمها ، وكان من أمرهم{[22543]} ما تقدم وما سيأتي .
وقوله : { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } يحتمل عود الضمير في قوله : { وَقَالَ } ، على لوط ، لأنه{[22544]} أقرب المذكورين ، ويحتمل عوده إلى إبراهيم - قال{[22545]} ابن عباس ، والضحاك : وهو المكنى عنه بقوله : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي : من قومه .
ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي : له العزة ولرسوله وللمؤمنين به ، { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية .
وقال قتادة : هاجرا جميعا من " كوثى " ، وهي من سواد{[22546]} الكوفة إلى الشام . قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ستكون هجرة بعد هجرة ، ينحاز أهل الأرض إلى مُهَاجَر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار أهلها ، حتى تلفظهم أرضهم وتقذرُهم روح الله ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير ، تبيت معهم إذا باتوا ، وتَقِيل معهم إذا قالوا ، وتأكل ما سقط منهم " .
وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث ، فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال{[22547]} : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشَب قال : لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية ، قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البِكَالي ، فجئته ؛ إذ جاء رجل ، فانتبذَ الناس وعليه خَمِيصة ، وإذا{[22548]} هو عبد الله بن عمرو بن العاص . فلما رآه نوف أمسك عن الحديث ، فقال عبد الله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنها ستكون هجرة بعد هجرة ، فينحاز الناس إلى مُهَاجرَ إبراهيم ، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها ، فتلفظهم{[22549]} أرضوهم ، تقْذَرهم نفسُ الرحمن ، تحشرهم النار مع القردة والخنازير فتبيت معهم إذا باتوا ، وتَقِيل معهم إذا قالوا ، وتأكل منهم من تَخَلَّف " . قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيخرج أناس{[22550]} من أمتي من قبل المشرق ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تَرَاقِيهم ، كلما خرج منهم قرن قُطع ، كلما خرج منهم قرن قطع " حتى عَدّها زيادة على عشرين مرة " كلما خرج منهم قرن قطع ، حتى يخرج الدجال في بقيتهم " {[22551]} .
ورواه أحمد عن أبي داود ، وعبد الصمد ، كلاهما عن هشام الدَّسْتُوائي ، عن قتادة ، به{[22552]} . وقد رواه أبو داود في سننه ، فقال في كتاب الجهاد ، باب ما جاء في سكنى الشام :
حدثنا عبيد الله بن عمر ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني [ أبي ]{[22553]} ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ستكون هجرة بعد هجرة ، فخيار أهل الأرض ألزمهم مُهاجَر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضهم وتَقْذرهم نفس الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير " {[22554]} .
وقال{[22555]} الإمام أحمد أيضا : حدثنا يزيد ، أخبرنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة ، عن شهر بن حوشب قال : سمعت{[22556]} عبد الله بن عُمَر يقول{[22557]} لقد رأيتُنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم ، ثم لقد رأيتنا بآخِرَة الآن ، والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر ، وتبايعتم بالعينة ، وتركتم الجهاد في سبيل الله ، ليلزمنكم الله مذلَّة في أعناقكم ، ثم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه ، وتتوبوا إلى الله عز وجل " . وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مُهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرضين{[22558]} إلا شرار أهلها وتلفظهم أرضوهم ، وتقذرهم روح الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير ، تقيل حيث يقيلون{[22559]} ، وتبيت حيث يبيتون ، وما سقط منهم فلها " . ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال يزيد : لا أعلمه إلا قال - يحقر أحدكم علمه مع علمهم ، يقتلون أهل الإسلام ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، فطوبى لمن قتلهم ، وطوبى لمن قتلوه . كلما طلع منهم قرن قَطعَه الله " . فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة ، أو أكثر ، وأنا أسمع{[22560]} .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو الحُسَيْن بن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الأوزاعي ، عن نافع - وقال أبو النضر ، عمن حدَّثه ، عن نافع - عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة ، إلى مهاجَر إبراهيم ، حتى لا يبقى إلا شرار أهلها ، تلفظهم الأرضون{[22561]} وتقذرهم روح الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، لها ما سقط منهم " .
غريب من حديث نافع . والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء ، والله أعلم . وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ .
جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع ، وأفادت الفاء مبادرة لوط بتصديق إبراهيم ، والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى { وإبراهيم إذ قال لقومه } [ العنكبوت : 16 ] الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير :
وفي التوراة أنه كانت معه زوجُهُ ( سارة ) وزوج لوط واسمها ( ملكة ) . ولوط هو ابن ( هاران ) أخي إبراهيم ، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما السلام .
{ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إلى ربى إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
عطف على جملة { فأنجاه الله من النار } [ العنكبوت : 24 ] .
فضمير { قال } عائد إلى إبراهيم ، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة ديار أهل الكفر .
وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه . والمهاجرة مفاعلة من الهجر : وهو ترك شيء كان ملازماً له ، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضاً .
وحرف { إلى } في قوله { إلى ربي } للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون { إلى } تخييلاً لاستعارة مكنية ؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله ، فتكون { إلى } على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية .
ورُشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله { إنه هو العزيز الحكيم } . وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون { إني مهاجر إلى ربي } ، لأن من كان عزيزاً يعتز به جاره ونزيله .
وإتباع وصف { العزيز } ب { الحكيم } لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم ، ونصر الداعي إلى الحق ، ويجوز أن يكون { الحكيم } بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى { العزيز } .