في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

ثم ما الذي حدث ؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف ! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار !

( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين ) . .

والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار ! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى ! ( إنا كنا ظالمين ) . . فياله من موقف مذهل رعيب مخيف ، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك !

إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك . فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن . . فالشرك هو الظلم . والظلم هو الشرك . وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه ؟ !

وبينما المشهد معروض في الدنيا ، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه ، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين ؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه ، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف ، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة . فإن الندم قد فات موعده ، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب . .

/خ25

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

وقوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم ، وأنهم حقيقون بهذا . كما قال تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأَْ بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا ] خَامِدِين }{[11549]} [ الأنبياء : 11 - 15 ] .

وقال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم " ، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد ، حدثنا جرير ، عن أبي سِنان ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال : قال عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[11550]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم " . قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذاك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }{[11551]} .


[11549]:زيادة من ك، د، أ، وفي هـ "إلى قوله".
[11550]:زيادة من أ.
[11551]:تفسير الطبري (12/304).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله : { فما كان دعواهم } يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس .

والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله : [ يونس : 10 ] وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى .

ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى .

واقتصارهم على قولهم : { إنا كنا ظالمين } إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .

وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم .

والمراد بقولهم : { كنا ظالمين } أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله ، قال تعالى : { إنّ الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً .

وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن ، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد ، مثل الويل والثّبور ، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التّوبيخ ، والتّوقيف على الخطأ ، وإنشاء النّدامة ، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قرّرتُه آنفاً .

والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل .

واسم كان هو : { أن قالوا } المفرغ له عمل كان ، و { دعواهم } خبر ( كان ) مقدّم ، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث ، ولو كان : ( دعوى ) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان ، نحو قوله تعالى : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } [ الأعراف : 82 ] { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } [ آل عمران : 147 ] وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم ، غريب ، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق ، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي ، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ . واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا ، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق ، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء ، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً ، كأنّ السّامع يسأل : ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : { إنا كنا ظالمين } دعاءَهم ، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم } [ الأعراف : 82 ] ، على أنّه قد قيل : إنّه لاطِّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من ( أن ) والفعل عِلَّة لفْظيّة : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقاً بأن يكون هو الاسم ، لأنّ الأصل أنّ الاعرف من الجُزأين وهو الذي يكون مسنداً إليه .