يستعرض السياق أولئك الأنبياء ، ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين الأتقياء وبين الذين خلفوهم سواء من مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل . . فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق بعيد بين السلف والخلف :
( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ، وممن حملنا مع نوح ، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ، وممن هدينا واجتبينا . إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا . فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . . . ) .
والسياق يقف في هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية ( من ذرية آدم ) . ( وممن حملنا مع نوح ) . ( ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ) . فآدم يشمل الجميع ، ونوح يشمل من بعده ، وإبراهيم يشمل فرعي النبوة الكبيرين : ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل . وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم النبيين .
أولئك النبيون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم . . صفتهم البارزة : ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) . . فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله ؛ ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته ، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر ، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا . .
أولئك الأتقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله . .
يقول تعالى هؤلاء النبيون - وليس المراد [ هؤلاء ]{[18922]} المذكورين في هذه السورة فقط ، بل جنس الأنبياء عليهم السلام ، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس - { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } الآية .
قال السدي وابن جرير ، رحمه الله : [ فالذي عنى به من ذرية آدم : إدريس ، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح : إبراهيم ]{[18923]} والذي عنى به من ذرية إبراهيم : إسحاق ويعقوب وإسماعيل ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل : موسى ، وهارون ، وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم .
قال ابن جرير : ولذلك{[18924]} فرّق أنسابهم ، وإن كان يجمع جميعهم آدم ؛ لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة ، وهو إدريس ، فإنه جد نوح .
قلت : هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح ، عليهما السلام . وقد قيل : إنه من أنبياء بني إسرائيل ، أخذًا من حديث الإسراء ، حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم : " مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح " ، ولم يقل : " والولد الصالح " ، كما قال آدم وإبراهيم{[18925]} ، عليهما السلام .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن محمد{[18926]} أن إدريس أقدم من نوح بعثه الله إلى قومه ، فأمرهم أن يقولوا : " لا إله إلا الله " ، ويعملوا{[18927]} ما شاءوا فأبوا ، فأهلكهم الله عز وجل .
[ ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء ، أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ]{[18928]} إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إلى أن قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [ الأنعام 83 - 90 ] وقال تعالى : { مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ{[18929]} } [ غافر : 78 ] . وفي صحيح البخاري ، عن مجاهد : أنه سأل ابن عباس : أفي " ص " سجدة ؟ قال{[18930]} نعم ، ثم تلا هذه الآية : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } ، فنبيكم ممن أُمِر أن يقتدي بهم ، قال : وهو منهم ، يعني داود{[18931]} .
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } أي : إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه ، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة ، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة .
" والبُكِيّ " : جمع باك ، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا ، اقتداء بهم ، واتباعًا لمنوالهم{[18932]}
قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي مَعْمَر قال : قرأ عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، سورة مريم ، فسجد وقال : هذا السجود ، فأين البكى ؟ يريد البكاء .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وسَقَط من روايته ذكر " أبي معمر " فيما رأيت{[18933]} ، والله{[18934]} أعلم .
{ أولئك } إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم السلام . { الذين أنعم الله عليهم } بأنواع النعم الدينية والدنيوية { من النبيين } بيان للموصول { من ذرية آدم } بدل منه بإعادة الجار ، ويجوز أن تكون { من } فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية . { وممن حملنا مع نوح } أي ومن ذرية من حملنا خصوصا ، وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح . { ومن ذرية إبراهيم } الباقون . { وإسرائيل } عطف على { إبراهيم } أي ومن ذرية إسرائيل ، وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية . { وممن هدينا } ومن جملة من هديناهم إلى الحق . { واجتنبينا } للنبوة والكرامة . { إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا } خبر ل { أولئك } إن جعلت الموصول صفته ، واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى . وعن النبي عليه الصلاة والسلام " اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا " والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد . وقرىء " يتلى " بالياء لأن التأنيث غير حقيقي ، وقرأ حمزة والكسائي " بكيا " بكسر الباء .
وقوله تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم } الإشارة ب { أولئك } إلى من تقدم ذكره ، وقوله { من ذرية آدم } يريد { إدريس } ونوحاً وممن حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام ، { ومن ذرية إبراهيم } وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ومن ذرية { إسرائيل } موسى وهارون وزكرياء ويحيى ومريم . وقوله { وممن هدينا } معناه وأولئك ممن هدينا ، لأن هدى الله قد ناله غير هؤلاء . { واجتبينا } معناه اصطفينا واخترنا وكأنه من جبيت المال إذا جمعته ومنه جباية المال وكأن جابيه يصطفيه ، وقرأ الجمهور «إذا تتلى » بالتاء من فوق وقرأ نافع وشيبة ، وأبو جعفر «إذا يتلى » بالياء ، و «الآيات » هنا الكتب المنزلة ، و { سجداً } نصب على الحال لأن مبدأ السجود سجود ، وقرأ عمر بن الخطاب والجمهور «بكياً » قالت فرقة : هو جمع باك كما يجمع عاث وجاث على عثيّ وجثي ، وقال فرقة : هو مصدر بمعنى البكاء التقدير وبكوا { بكياً } واحتج الطبري ومكي لهذا القول بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روي أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال «هذا السجود فأين البكي » يعني البكاء ، واحتجاجهم بهذا فاسد لأنه يحتمل أن يريد عمر رضي الله عنه «فأين الباكون » ، فلا حجة فيه لهذا وهذا الذي ذكروه عن عمر ذكره أبو حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش «وبكياً » بكسر الباء وهو مصدر على هذه القراءة لا يحتمل غير ذلك .
الجملة استئناف ابتدائي ، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله { ذكر رحمة ربك عبده زكرياء } [ مريم : 2 ] إلى هنا . والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف ، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبيْن وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه .
والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله { أنعم الله عليهم } وقوله { وممّن هدينا واجتبينا } ، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال ، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما . وتلك وإن كانت نعماً وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفاً لها ، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازَى عليه إلاّ تشريفه .
وقرأ الجمهور { من النّبييّن } بياءين بعد الموحدة . وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة .
وجملة { إذَا تتلى عَليهم ءَاياتُ الرَّحْمانِ } مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء .
والمراد به البكاء الناشىء عن انفعال النفس انفعالاً مختلطاً من التعظيم والخوف .
و { سُجداً } جمع ساجد . و{ بُكيّاً } جمع بَاك . والأول بوزن فُعّل مثل عُذَّل ، والثاني وزنه فعُول جمع فاعل مثل قوم قعود ، وهو يائي لأنّ فعله بكى يبكي ، فأصله : بُكُويٌ . فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء . وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله .
وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن ، فهم سجدوا كثيراً عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم ، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا . وأثنت على سجودهم قصداً للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين اقتصصتُ عليك أنباءهم في هذه السورة يا محمد، الذين أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء من ذريه آدم، ومن ذرية من حملنا مع نوح في الفُلك، ومن ذرية إبراهيم خليل الرحمن، ومن ذرية إسرائيل، وممن هدينا للإيمان بالله والعمل بطاعته "واجتبينا": يقول: وممن اصطفينا واخترنا لرسالتنا ووحينا...
وقوله تعالى ذكره: "إذَا تُتلى عَلَيهِمْ آياتُ الرّحمنِ "يقول: إذا تتلى على هؤلاء الذين أنعم الله عليهم من النبيين أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم في كتبه، خرّوا لله سجدا، استكانة له وتذللاً وخضوعا لأمره وانقيادا، "وَبُكِيّا" يقول: خرّوا سجدا وهم باكون، والبُكِيّ: جمع باك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أقامهم بشواهد الجمع، وأخبر أن مِنَّتَه كامِنَةٌ في تخصيصِهم بأحوالهم، وتأهيلهم لِمَا رقَّاهم إليه من المآل، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم. ومما أنعم به عليهم من الخصائص رِقَّةُ قلوبِهم؛ فهم إذ تُتْلَى عليهم الآياتُ سجدوا، وسجوُد ظواهرِهم يدل على سجود سرائرهم بما حقَّقَ لهم من شواهد الجمع، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق؛ فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية، وبِنعَت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{إذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجّداً وَبُكِيّا} الآية: [58]: فيه دلالة على أن لتلاوة آيات الرحمن تأثيراً،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أولئك} إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. و«من» في {مّنَ النبيين} للبيان مثلها في قوله تعالى في آخر سورة الفتح {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29] لأن جميع الأنبياء منعم عليهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقوله {وممن هدينا} معناه وأولئك ممن هدينا، لأن هدى الله قد ناله غير هؤلاء. {واجتبينا} معناه اصطفينا واخترنا وكأنه من جبيت المال إذا جمعته ومنه جباية المال وكأن جابيه يصطفيه.
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخرا فقال: {أولئك الذين أنعم الله عليهم} أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس، ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح... فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبها بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبها بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم، ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجدا وبكيا خضوعا وخشوعا وحذرا وخوفا، والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم. وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الآيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما انقضى كشف هذه الأخبار، العلية المقدار، الجليلة الأسرار، شرع سبحانه ينسب أهلها بأشرف نسبهم، ويذكر أمتن سببهم هزاً لمن وافقهم في النسب إلى الموافقة في السبب فقال: {أولئك} أي العالو الرتب، الشرفاء النسب {الذين أنعم الله} بما له من صفات الكمال التي بها أقام آدم عليه السلام وهم في ظهره، مع ما طبعه عليه من الأمور المتضادة حتى نجاه من مكر إبليس، ونجى بها نوحاً عليه السلام وهم في صلبه من ذلك الكرب العظيم، وإبراهيم عليه السلام وهم في قواه مع اضطرام النار وإطفاء السن وإصلاد العظم، وأعلى بها إسرائيل عليه السلام وبنيه في سوط الفراق وامتهان العبودية وانتهاك الاتهام حتى كان أبناؤه معدن الملوك والأنبياء، ومحل الأتقياء والأصفياء، إلى غير ذلك من جليل الأنبياء وعظيم الاصطفاء والاجتباء {عليهم} بما خصهم به من مزيد القرب إليه، وعظيم المنزلة لديه؛ وبين الموصول بقوله: {من النبيين} أي المصطفين للنبوة الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم، ورفع محالهم بين الأمم، وأنبأوا الناس بجلائل الكلم، وأمروهم بطاهر الشيم. ولما كانوا بعض بني آدم الذين تقدم أنا كرمناهم، قال إشارة إلى ما في ذلك من النعمة عليهم وهم يرونها: {من ذرية ءادم} صفينا أبي البشر الذي خلقه الله من التراب بيده، وأسجد له ملائكته، وإدريس أحقهم بذلك. ولما كان في إنجاء نوح عليه السلام وإغراق قومه من القدرة الباهرة ما لا يخفى، نبه عليه بنون العظمة في قوله مشيراً إلى أعظم النعمة عليهم بالتبعيض، وإلى أن نبيهم من ذريته كما كان هو من ذرية إدريس عليه السلام الذي هو من ذرية آدم، فكما كان كل منهم رسولاً فكذلك هو وإبراهيم أقربهم إلى ذلك: {وممن حملنا مع نوح} صفينا أول رسول أرسلناه بعد افتراق أهل الأرض وإشراكهم، من خلص العباد، وأهل الرشاد، وجعلناه شكوراً، وإبراهيم أقربهم إلى ذلك {ومن ذرية إبراهيم} خليلنا الذي كان له في إعدام الأنداد ما اشتهر به من فضله بين العباد، وإسماعيل وإسحاق أولاهم بذلك، ثم يعقوب {وإسرائيل} صفينا، وهم الباقون: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم بنت داود -على جميعهم أفضل الصلاة والسلام- فكما كان هؤلاء رسلاً وهم من ذرية إبراهيم الذي هو من ذرية نوح فكذا نبيكم الذي هو من ذرية إسماعيل الذي هو من إبراهيم لصلبه وهو أول أولاده كما كان إسرائيل من ذريته، فالإرسال من ذرية من هو ابنه لصلبه أولى من الإرسال من ذرية من بينه وبينه واسطة، وإلا كان بنو إسرائيل أشرف منكم وأبوهم أشرف من أبيكم، فلا تردوا الكرامة، يا من يتنافسون في المفاخرة والزعامة {وممن هدينا} إلى أقوم الطرق {واجتبينا} أي فعلنا بهم فعل من يتخير الشيء وينتقيه بأن أسبغنا عليهم من النعم ما يجل عن الوصف؛ وعطف الأوصاف بالواو إشارة إلى التمكن فيها. ولما ذكر ما حباهم به، ذكر ما تسبب عن ذلك فقال مستأنفاً {إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن} العام النعمة، فكيف بهم إذا أعلاهم جلال أو خصتهم رحمة من جلائل النعم، من فيض الجود والكرم، فسمعوا خصوص هذا القرآن {خروا سجداً} للمنعم عليهم تقرباً إليه، لما لهم من البصائر المنيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم {وبكياً} خوفاً منه وشوقاً إليه، فوصفهم بسرعة الخشوع من ذكر الله الناشئ عن دوام الخضوع والناشىء عنه الإسراع بالسجود في حالة البكاء، وجعلهما حالتين بالعطف بالواو لعراقة المتحلي بهما في كل منهما على انفراده، وعبر بالاسم في كل من السجود والبكاء، إشارة إلى أن خوفهم دائم كما أن خضوعهم دائم لعظمة الكبير الجليل، لأن تلك الحضرة لا تغيب عنهم أصلاً، وإن حصل غير البكاء فللتأنيس لمن أرسلوا إليه ليوصلوه إلى قريب من رتبتهم بحسن عشرتهم على تفاوت المراتب، وتباين المطالب، وحذف ذكر الأذقان لدلالتها -كما تقدم في سبحان- على نوع دهشة، فهي -وإن أعلت صاحبها عمن لم يبلغها- حالة دون مقام الراسخين في حضرة الجلال، لأنهم -مع كونهم في الذروة من مقام الخوف- في أعلى درجات الكمال من حضور الفكر وانشراح الصدر -لتلقي واردات الحق وإلقائها إلى الخلق،...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين، وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي: أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة، وهم الذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الذين أنعمت عليهم، وأن من أطاع الله، كان {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية. وأن بعضهم {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي: من ذريته {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} فهذه خير بيوت العالم، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم،. وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد. {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي: خضعوا لآيات الله، وخشعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود لربهم، ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا. وفي إضافة الآيات إلى اسمه {الرحمن} دلالة على أن آياته، من رحمته بعباده وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق، وبصرهم من العمى، وأنقذهم من الضلالة، وعلمهم من الجهالة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يستعرض السياق أولئك الأنبياء، ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين الأتقياء وبين الذين خلفوهم سواء من مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل.. فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق بعيد بين السلف والخلف:... فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله؛ ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا.. أولئك الأتقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة استئناف ابتدائي، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله {ذكر رحمة ربك عبده زكرياء} [مريم: 2] إلى هنا. والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبيْن وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه. والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله {أنعم الله عليهم} وقوله {وممّن هدينا واجتبينا}، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما. وتلك وإن كانت نعماً وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفاً لها، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازَى عليه إلاّ تشريفه...
وأثنت على سجودهم قصداً للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهكذا أنعم الله تعالى على هؤلاء بنعمة التوحيد، ونعمة الوحي، ونعمة الاصطفاء على العالمين، ونعمة الجهاد في دعوة الحق وحرمته وقد ذكر الله تعالى أن ممن أنعم الله تعالى من هداهم الله تعالى بهدى الأنبياء والمرسلين، ولذا قال تعالى: {وممن هدينا واجتبينا}، (الواو) عاطفة على قوله تعالى: {من النبيين} ف (من) بيانية، والله أنعم على النبيين ومن تبعهم، فقوله: {وممن هدينا}، أي الذين اتبعوهم على صراط مستقيم، {واجتبينا} الذي اخترناهم لنبوة وجهاد كداود، وطالوت الذي جعله الله تعالى رئيسا لبنى إسرائيل قادهم إلى الحرية والعزة وإن لم يكن من أبناء كبرائهم. وإن هؤلاء الأنبياء المصطفين الأخبار والتابعين الأبرار قد صفت نفوسهم واستقامت قلوبهم، وصغت إلى الحق أفئدتهم فكانوا إذا تليت عليهم آياته في كتبه الذي أنزلها الرحمن خروا ساجدين باكين، ولذا قال تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} سجدا: جمع ساجد، وبكيا جمع باك، أي أنهم لفرط تأثرهم بآيات الرحمة التي تنزل من عند الرحمن، ولذا اختير ذلك الوصف {الرحمن} في التعبير عن الذات، فهم يبكون لشعورهم برحمة الله، ويسجدون شكرا لله تعالى على ما أنعم، وأن ذلك كان من أمر الصالحين...
وإن ذلك من الوعي الطيب، إذ يحس السامع للتلاوة، بأنه يسمع الله تعالى ينادي فيرتجف ويقشعر بدنه، ولقد قال الله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله... 23} (الزمر).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الذين أنعم الله عليهم بالإيمان التوحيدي الخالص الذي ينفتح على الله بروحية العبد الطائع الذي أخلص لله في العقيدة وفي الطاعة، وأعطى من فكره وعمله، فلم يُغضب الله لتمرده ولا لضلاله، و {مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} من البقية الصالحة من المؤمنين الخالصين الذين آمنوا بنوح النبي واتبعوه، {وَمِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم وَإِسْرَائيلَ} الذين امتدت النبوة فيهم وتحولت إلى خط متحرك في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا} من الذين هداهم الله بما أفاض عليهم من نور البصيرة، وانفتاح العقل، وصفاء الروح، ومسؤولية الحركة، واستقامة الطريق، ووضوح الهدف، وتقوى الفكر والعمل. وقد يكون المراد من كل هؤلاء، هم النبيون الذين أنعم الله عليهم، كما قد يفهم من قوله تعالى: {مِّنَ النَّبِيِّيْنَ} حيث حددت المشار إليهم بالنبيين، ولكننا عندما نلاحظ ذكر اسم مريم، وهي ليست من الأنبياء، فقد نستوحي من ذلك أن المسألة أشمل من ذلك، وتكون الإشارة إلى هؤلاء على أساس أنهم يمثلون النموذج الأكمل للمهتدين الذين أنعم الله عليهم بالإيمان والتقوى، واجتباهم لرسالته ولدينه. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} في ما يمثله السجود من خضوع لله في الشعور العميق بالعبودية، وفي ما يعبر عنه البكاء من إحساس بالروحية الفيّاضة الخاشعة أمام خوف الله ومحبته، في انفعال إيماني عميق بالمضمون الروحي لآيات الله، والإشراق الفكري لمعانيها. وهكذا كان هؤلاء الروّاد طليعة البشرية في حركة التسامي والعلاء، والصفاء الروحي، والإسلام لله، ولكن الجيل الآتي من بعدهم، لم ينفعل بهم، ولم يسلك طريقهم، ولم يحمل رسالتهم، ولم يتحمل مسؤوليتهم، بل كان سائراً في خط الانحراف.