فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَـٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩} (58)

{ أولئك } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إلى الأنبياء المذكورين من أول السورة إلى هنا ، وهم عشرة أولهم في الذكر زكريا وآخرهم فيه إدريس ، وهو مبتدأ وقوله : { الذين أنعم الله عليهم } صفته و { من النبيين } بيان للموصول من بيان العام بالخاص و { من ذرية آدم } بدل منه بإعادة الخافض ، وقيل ( من ) فيه للتبعيض ، يعني إدريس ونوحا .

{ وممن حملنا مع نوح } أي من ذرية من حملنا معه في السفينة ، وهم من عدا إدريس ، فإن إدريس من ذرية آدم لقربه منه ، وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ذرية سام بن نوح ، فإن إبراهيم بن آزر وبينه وبين نوح عشرة قرون كما في التحبير .

{ ومن ذرية إبراهيم } وهم الباقون { و } من ذرية { إسرائيل } وهو يعقوب ؛ وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية . وقيل إنه أراد بقوله من ذرية آدم إدريس وحده ، وبقوله وممن حملنا مع نوح إبراهيم وحده ، وبقوله من ذرية إبراهيم ، إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وبقوله إسرائيل موسى وهرون وزكريا ويحي وعيسى ، قال السدي : هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم ، أما من ذرية آدم فإدريس ونوح وأما من ذرية من حمل مع نوح فإبراهيم ، وأما ذرية إبراهيم فإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وأما ذرية إسرائيل فموسى وهرون وزكريا و يحيى وعيسى ، لأن مريم من ذريته .

{ وممن هدينا } أي من جملة من هدينا إلى الإسلام { واجتبينا } بالإيمان وقيل على الأنام وهذا آخر الصفات ، والتقدير والكائنين ممن هدينا الخ ، واعلم انه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ، ثم جمعهم آخرا فقال أولئك الخ ، فرتب تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبها بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم منزلة في الفضل بولادتهم هؤلاء الأنبياء ، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبها بذلك على أنهم خصوا بهذه المنازل لهداية الله لهم ، ولأنه اختارهم للرسالة .

{ وإذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا } وهذا خير لأولئك ، ويجوز أن يكون الخبر هو الذين أنعم الله عليهم ، وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه ، والسجد والبكيّ جمع ساجد قياسا وباك على غير قياس ، وقياسه بكاة ، كقاض وقضاة ، وقد تقدم في سبحان بيان معنى خروا سجدا ، يقال بكى يبكي بكاء وبكيا ؛ قال الخليل : إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن ، أي ليس معه صوت ، ومنه قول الشاعر :

بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل

قال الزجاج : قد بين الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا خضوعا وخشوعا وخوفا وحذرا ، والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم ، وقيل المراد بها ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ؛ وفيه استحباب البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن .

قال صالح المري : قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء ؟ وفي الحديث : اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا{[1166]} . وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه ، وقد استدل بهذه على مشروعية سجود التلاوة ، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه الآية ، وقال بعضهم : إنه الصلاة .

وقال الرازي : يحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلوا ذلك لأجل ذكر السجود في الآية .

ولما مدح الله سبحانه هؤلاء الأنبياء بهذه الصفات ترغيبا لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ، ذكر أضدادهم تنفيرا للناس على طريقتهم فقال :


[1166]:ابن ماجة كتاب الإقامة باب 176-كتاب الزهد باب 69.