( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) . .
فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل ، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد ؛ وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله ، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون . فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك . وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم ؛ فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل ، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل ! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين !
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة ؛ وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء . فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان !
وقوله : وَإذْ يقُولُ المُنافِقونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : شَكّ في الإيمان ، وضعف في اعتقادهم إياه : ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غُرورا ، وذلك فيما ذُكِر قولُ معتّب بن قُشَير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رُومان وَإذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا يقول : مُعَتّب بن قُشَير ، إذ قال ما قال يوم الخندق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَإذْ يَقُولُ المنافقون والّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : تكلّمهم بالنفاق يومئذٍ ، وتَكَلّمَ المؤمنون بالحقّ والإيمان ، قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَإذْ يَقولُ المُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا قال : قال ذلك أُناس من المنافقين : قد كان محمد يعدُنا فتح فارس والروم ، وقد حُصِرنا هاهنا ، حتى ما يستطيع أحدُنا أن يبرُز لحاجته ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غرورا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : قال رجل يوم الأحزاب لرجل من صحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا فلان أرأيت إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَإذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ ، وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنّ كُنُوزُهُما فِي سَبِيلِ اللّهِ » . فأينَ هذا من هذا ، وأحدُنا لا يستطيع أن يخرج يبول من الخوف ؟ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا . فقال له : كذبت ، لأُخْبِرَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك ، قال : فأَتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فدعاه فقال : «ما قلت ؟ » فقال : كذبَ عليّ يا رسول الله ، ما قلت شيئا ، ما خرج هذا من فمي قطّ قال الله : يَحْلِفُونَ بالله ما قالُوا ، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ . . . حتى بلغ وَما لَهُمْ في الأَرْضِ مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ قال : «فهذا قول الله : إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طائِفَةً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة ، قال : حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزَنيّ ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، قال : خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام ذُكِرت الأحزاب ، من أحمر الشيخين ، طرف بني حارثة ، حتى بلغ المَذَاد ، ثم جعل أربعين ذراعا بين كلّ عشرة ، فاختلف المهاجرون والأنصار في سَلْمان الفارسيّ ، وكان رجلاً قويّا ، فقال الأنصار : سَلْمان منا ، وقال المهاجرون : سلمان منا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «سَلْمانُ مِنّا أهْلَ البَيْتِ » . قال عمرو بن عوف : فكنت أنا وسَلْمانُ وحُذَيفةُ بن اليمان والنّعمانُ بن مُقَرّن المُزَنيّ ، وستةٌ من الأنصار ، في أربعين ذراعا ، فحفَرنا تحت دوبار حتى بلغنا الصّرَى ، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة ، فكسرت حديدنا ، وشَقّت علينا ، فقلنا : يا سلمان ، ارْقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبر هذه الصخرة ، فإما أن نعدل عنها ، فإن المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيها بأمره ، فإنا لا نحبّ أن نجاوز خَطّه . فرقي سَلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قُبةً تركية ، فقال : يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا ، خرجت صخرة بيضاء من بطن الخندق ، مَرْوَة ، فكسرت حديدنا ، وشقّت علينا ، حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك ، فإنا لا نحبّ أن نجاوز خَطّك . فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق ، ورَقِينا نحن التسعة على شَفَة الخندق ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المِعْول من سَلمان ، فضرب الصخرة ضربة صَدَعها ، وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بين لابتيها ، يعني : لابتي المدينة ، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكّبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح ، وكبر المسلمون . ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية ، فصَدَعها وبَرَقت منها بَرْقة أضاءت ما بين لابتيها ، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح ، وكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة ، فكسرها ، وبَرَقَت منها بَرْقة أضاءت ما بين لابتيها ، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح ، ثم أخذ بيد سَلْمانَ فَرِقي ، فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئا ما رأيته قطّ ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم ، فقال : «هَلْ رأيْتُمْ ما يقُولُ سَلْمانُ ؟ » قَالُوا : نعم يا رسول الله ، بأبينا أنت وأمنا وقد رأيناك تضرب ، فيخرج بَرْق كالموجِ ، فرأيناك تكبّر فنكبر ، ولا نرى شيئا غير ذلك ، قال : «صَدَقْتُمْ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الأُولى ، فبَرَقَ الّذِي رأيتُمْ ، أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الْحِيرَةِ وَمَدَائِنُ كسْرَى ، كأنّها أنْيابُ الكِلابِ ، فأخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها ، ثُمّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثّانِيَةَ ، فبَرَقَ الّذِي رأيْتُمْ ، أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الحُمْرِ مِنْ أرْضِ الرّومِ ، كأنّها أنْيابُ الكِلابِ ، وأخْبَرَنِي جَبْرائِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها ، ثُمّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثّالِثَةَ ، وَبَرَقَ مِنْها الّذِي رأيْتُمْ ، أضَاءَتْ لي مِنْها قُصُورُ صَنْعاءَ ، كأنّها أنْيابُ الكِلابِ ، وأخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ أنّ أُمّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها ، فأَبْشِرُوا ، يُبَلّغْهُمُ النصْرُ ، وأبْشِرُوا ، يُبَلّغُهُمُ النّصْرُ ، وأبْشِرُوا يُبَلّغُهُمُ النّصْرُ » . فاستبشر المسلمون ، وقالوا : الحمد لله موعود صدق ، بأن وعَدَنا النصر بعد الحَصْر ، فطَبّقت الأحزاب ، فقال المسلمون هَذا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسولُهُ . . . الاَية ، وقال المنافقون : ألا تعجبون . ؟ يُحَدّثكم ويمنيكم ويَعِدكم الباطل ، يُخْبركم أنه يبصر من يثربَ قصور الحِيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتُح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق ، ولا تستطيعون أن تَبْرزُوا ؟ وأُنزل القرآن : وَإذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا .
عطف على { وإذْ زاغتْ الأبصار } [ الأحزاب : 10 ] فإن ذلك كله مما ألحَق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين ، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد ، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدَّه يوم الأحزاب .
وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم { ما وَعَدَنا الله ورسوله } الخ . . . أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله ، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعون { إنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] .
والغرور : ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد } في سورة آل عمران ( 196 ) ، وقوله تعالى : { زُخْرف القول غروراً } في سورة الأنعام ( 112 ) . والمعنى : أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلاَّ فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يُرْوَ أنهم وُعدوا فيها بنصر . والذين في قلوبهم مرض } هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّمُوا عليه .
والمراد بالطائفة الذين قالوا : { يا أهل يثرب لا مقامَ لكم فارجعوا } عبدُ الله بن أبيِّ ابنُ سَلول وأصحابُه . كذا قال السدي . وقال الأكثر : هو أوس بن قَيظي أحدُ بني حارثة ، وهو والد عَرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ :
رأيت عرابةَ الأوْسيَّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين
في جماعة من منافقي قومه . والظاهر هو ما قاله السُدّي لأن عبد الله بن أبَيّ رأس المنافقين ، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم .