والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور :
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . .
ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه . وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته ، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً . ثم لا ينتبه إلى دلالته ، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره . .
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) . .
فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب ? إنها نقطة من ماء مهين ، لا قوام ولا قيمة ! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا . . خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا . ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل !
والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين . وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير ! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور ?
قال مجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعروة بن الزبير ، والسُّدِّي . وقتادة : جاء أُبي بن خلف [ لعنه الله ]{[24868]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يُفَتِّتُه ويذريه{[24869]} في الهواء ، وهو يقول : يا محمد ، أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ فقال : «نعم ، يميتك الله تعالى ثم يبعثك ، ثم يحشرك إلى النار » . ونزلت هذه الآيات من آخر " يس " : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ } ، إلى آخرهن .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا عثمان بن سعيد الزيات ، عن هُشَيْم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير{[24870]} ، عن ابن عباس ، أن العاصى{[24871]} بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده ، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي الله هذا بعد ما أرى ؟{[24872]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم ، يميتك الله ثم يحييك ، ثم يدخلك جهنم » . قال : ونزلت الآيات من آخر " يس " .
ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم ، عن هُشَيْمٍ ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، فذكره ولم يذكر " ابن عباس " {[24873]} .
وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن أبي بعظم ففَتَّه وذكر نحو ما تقدم .
وهذا منكر ؛ لأن السورة مكية ، وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة . وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أُبي بن خلف ، أو [ في ]{[24874]} العاص [ بن وائل ] ، {[24875]} أو فيهما ، فهي عامة في كل مَنْ أنكر البعث . والألف واللام في قوله : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ } للجنس ، يعم كل{[24876]} منكر للبعث .
{ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } أي : أولم يستدل مَنْ أنكر البعث بالبدء على الإعادة ، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين ، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين ، كما قال تعالى : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ } [ المرسلات : 20 - 22 ] . وقال { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ } [ الإنسان : 2 ] أي : من نطفة من أخلاط متفرقة ، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته ؟ كما قال {[24877]} الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا حَريز ، حدثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة ، عن جُبَيْر بن نفير ، عن بُسْر ابن جَحَّاش ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصق يوما في كفِّه ، فوضع عليها أصبعه ، ثم قال : «قال الله تعالى : ابن آدم ، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك ، مشيت بين بردَيك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت : أتصدقُ وأنَّى أوان الصدقة ؟ » . ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن جَرير بن عثمان ، به{[24878]} . ولهذا قال : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ . واختُلف في الإنسان الذي عُني بقوله : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ فقال بعضهم : عُني به أُبّي بن خلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، في قوله : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قال : أُبيّ بن خَلَف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً أُبيّ بن خلف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ : ذُكر لنا أن أُبيّ بن خلف ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل ، ففتّه ، ثم ذرّاه في الريح ، ثم قال : يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ؟ قال : «الله يحييه ، ثم يميته ، ثم يُدخلك النار » قال : فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد .
وقال آخرون : بل عُني به : العاص بن وائل السّهميّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء العاص بن وائل السهميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظّم حائل ، ففتّه بين يديه ، فقال : يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرمّ ؟ قال : «نَعَمْ يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ثُمّ يُمِتُكَ ثُمّ يُحْيِيكَ ، ثُم يُدْخِلُكَ نارَ جَهَنّم » قال : ونزلت الاَيات : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . . . » إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل عُنِي به : عبد الله بن أُبيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ . . . إلى قوله : وَهِيَ رَمِيمٌ قال : جاء عبد الله بن أُبيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل فكسره بيده ، ثم قال : يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ويُمِيتُكَ ثُمّ يُدْخِلُكَ جَهَنّمَ » ، فقال الله : قُلْ يُحْيِيها الّذِي أنشأها أوّلَ مَرّةٍ وَهُو بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيّا فإذَا هوَ خَصِيمٌ يقول : فإذا هو ذو خصومة لربه ، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل ، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم ، فيقول : مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم ؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها .
وقوله : مُبِينٌ يقول : يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه .
{ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر ، وفيه تقبيح بليغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب . روي " أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ، فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت . وقيل معنى { فإذا هو خصيم مبين } فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه .
هذه الآية قال فيها ابن جبير : إنها نزلت بسبب أن المعاصي بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم ففته وقال : يا محمد من يحيي هذا ؟ وقال مجاهد وقتادة : إن الذي جاء بالعظم النخر أمية بن خلف ، وقاله الحسن ذكره الرماني ، وقال ابن عباس : الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول .
قال القاضي أبو محمد : وهو وهم ممن نسبه إلى ابن عباس لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، واسم أبي هو الذي خلط على الرواة ، لأن الصحيح هو ما رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره ، من أن أبي بن خلف أخا أمية بن خلف هو الذي جاء بالعظم الرميم بمكة ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله ، وقال من يحيى هذا يا محمد ؟ ولأبي مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله يوم أحد بيده بالحربة بجرح في عنقه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين فت العظم «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم »{[9821]} ثم نزلت الآية مبينة ومقيمة للحجة في أن الإنسان نطفة ثم يكون بعد ذلك خصيماً مبيناً هل هذا إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ، وقوله { ونسي } يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك ، و «الرميم » البالي المتفتت ، وهو الرفات .