ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد . صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق :
( ونادوا : يا مالك . ليقض علينا ربك ) . .
إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق . من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم . إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين . إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث . فهم مبلسون يائسون . إنما يصيحون في طلب الهلاك . الهلاك السريع الذي يريح . . وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا ! . . وإن هذا النداء ليلقي ظلاً كثيفاً للكرب والضيق . وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوساً أطار صوابها العذاب ، وأجساماً تجاوز الألم بها حد الطاقة ، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة : ( يا مالك . ليقض علينا ربك ) !
قوله تعالى : { ونادوا يا مالك } يدعون خازن النار ، { ليقض علينا ربك } ليمتنا ربك فنستريح فيجيبهم مالك بعد ألف سنة ، { قال إنكم ماكثون } مقيمون في العذاب .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة يذكره عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون ، قال : " هانت -والله- دعوتهم على مالك وعلى رب مالك ، ثم يدعون ربهم فيقولون : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ، قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يرد عليهم : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، قال : فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم ، تشبه أصواتهم بأصوات الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق " .
ولما كان من مفهوم الإبلاس السكوت ، أعلم بأن سكوتهم ليس دائماً لأن الإنسان إذا وطن نفسه على حالة واحدة ربما خف عنه بعد الألم ، فقال مبيناً أنهم من البعد بمحل كبير لا يطمعون معه في خطاب الملك ، وأنهم مع علمهم باليأس يعلقون آمالهم بالخلاص كما يقع للمتمنين للمحالات في الدنيا ليكون ذلك زيادة في المهم : { ونادوا } ثم بين أن المنادي خازن النار فقال مؤكداً لبيان البعد بأداته : { يا مالك } وقراءة " يا مال " للإشارة إلى أن العذاب أوهنهم عن إتمام الكلام ، ولذا قالوا : { ليقض علينا } أي سله سؤالاً حتماً أن يقضي القضاء الذي لا قضاء مثله ، وهو الموت على كل واحد منا ، وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا : { ربك } أي المحسن إليك فلم يروا لله عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ، فلا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً ، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه ، ولذلك جعل النار دركات كما كانت الجنة درجات ، ويجوز أن تكون عبارتهم بذلك تغييظاً له بما رأوا من ملابسة النار من تأثير فيه ، ونداؤهم لا ينافي إبلاسهم لأنه السكوت عن يأس ، وذلك لازم لهم لأنهم كلما سكتوا كان سكوتهم عن يأس ، فسكوتهم المقيد باليأس دائم ، فلذلك سألوا الموت ، والحاصل أنهم لا يتكلمون بما يدل على رجاء الفرج بل هم ساكتون أبداً عن ذلك .
. . اليأس لا على رجاء الفرج باللحاق برتبة المتقين .
ولما ذكر نداءهم ، استأنف ذكر جوابهم بقوله : { قال } أي مالك عليه الصلاة والسلام مؤكداً لأطماعهم لأن كلامهم هذا بحيث يفهم الرجاء ويفهم بأن رحمة الله تعالى التي هي موضع الرجاء خاصة بغيرهم { إنكم ماكثون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.