ثم يجيء الخبر المترقب ، الذي يخفق له ضمير الوجود . . .
( علم القرآن . خلق الإنسان علمه البيان . الشمس والقمر بحسبان . والنجم والشجر يسجدان . والسماء رفعها ووضع الميزان . ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . والأرض وضعها للأنام . فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) .
هذا هو المقطع الأول في بيان آلاء الرحمن . وهذا هو الخبر الأول بعد ذلك الإعلان . .
هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمن بالإنسان . . القرآن . . الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود . ومنهج السماء للأرض . الذي يصل أهلها بناموس الوجود ؛ ويقيم عقيدتهم وتصوراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الذي يقوم عليه الوجود . فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع الناموس .
القرآن الذي يفتح حواسهم ومشاعرهم على هذا الكون الجميل ، كأنما يطالعهم أول مرة ، فيجدد إحساسهم بوجودهم الذاتي ، كما يجدد إحساسهم بالكون من حولهم . ويزيد فيمنح كل شيء من حولهم حياة نابضة تتجاوب وتتعاطف مع البشر ؛ فإذا هم بين أصدقاء ، ورفاق أحباء ، حيثما ساروا أو أقاموا ، طوال رحلتهم على هذا الكوكب !
القرآن الذي يقر في أخلادهم أنهم خلفاء في الأرض ، أنهم كرام على الله ، وأنهم حملة الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . فيشعرهم بقيمتهم التي يستمدونها من تحقيق إنسانيتهم العليا ، بوسيلتها الوحيدة . . الإيمان . . الذي يحيي في أرواحهم نفخة الله . ويحقق نعمته الكبرى على الإنسان .
{ الرحمان علم القرآن } بدأ سبحانه في معرض الامتنان على عباده بجلائل النعم – بأعظمها شأنا ، وأرفعها مكانا ؛ وهو تعليم رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته القرآن . وهو هدى وشفاء ، وحمة وعصمة ، وأمان ونور للناس في دينهم ودنياهم . وهو أعظم وحي الله إلى أنبيائه ، وأشرفه منزلة عند أوليائه ، وأكثره ذكرا ، وأحسنه في أبواب الدين أثرا . والرحمان : من أسمائه تعالى ؛ وتخصيصه بالذكر هنا للتنبيه إلى أن تعليم القرآن من آثار رحمته الواسعة .
" علم القرآن " أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس . وأنزلت حين قالوا : وما الرحمن ؟ وقيل : نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر وهو رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، فأنزل الله تعالى : " الرحمن . علم القرآن " . وقال الزجاج : معنى " علم القرآن " أي سهله لأن يذكر ويقرأ كما قال : " ولقد يسرنا القرآن للذكر " [ القمر : 17 ] . وقيل : جعله علامة لما تعبد الناس به .
ولما كان لا شيء من الرحمة أبلغ ولا أدل على القدرة من إيصال بعض صفات الخالق إلى المخلوق نوع إيصال ليتخلقوا به بحسب{[61779]} ما يمكنهم منه فيحصلوا على الحياة الأبدية والسعادة السرمدية قال : { علم القرآن * } أي المرئي المشهود بالكتابة والمتلو المسموع{[61780]} الجامع لكل خير ، الفارق بين كل لبس ، وكان القياس يقتضي{[61781]} أن لا يعلم المسموع أحد لأنه صفة من صفاته ، وصفاته في العظم كذاته ، وذاته غيب محض ، لأن الخلق أحقر من أن يحيطوا به علماً ، " وأين الثريا من يد المتناول " فدل تعليمه القرآن على أنه يقدر أن يعلم ما أراد من أراد
{ وعلم آدم الاسماء كلها }[ البقرة : 31 ] ولا يخفى ما في تقديمه على جميع النعم من المناسبة لأن أجل النعم{[61782]} نعمة الدين التي تتبعها نعمة الدنيا والآخرة ، وهو أعلى مراتب ، فهو سنام الكتب السماوية وعمادها ومصداقها والعبار عليها ، وفائدتها{[61783]} الإيصال إلى مقعد{[61784]} الصدق المتقدم لأنه بين ما يرضي الله ليعمل به وما يسخطه ليجتنب .
وقال الإمام جعفر بن الزبير : من المعلوم أن الكتاب العزيز وإن كانت آية كلها معجزة باهرة وسورة في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة ، فبعضها أوضح من بعض في تبين إعجازها ، وتظاهر بلاغتها وإيجازها : ألا ترى إلى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى { و{[61785]}قيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي }[ هود : 44 ] وقوله
{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين }[ الحجر : 94 ] ، الآيات ، لا يتوقف في باهر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه أو سد دونه باب الفهم فأنى له بر لوجه وقوعه ، وسورة القمر من هذا النمط ، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها ، وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار ، ولولا أني لم أقصد التعليق مما بنيته عليه من ترتيب السور لأوضحت ما أشرت إليه مما لم أسبق إليه ، ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير نفع الله به ويسر فيه ، فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبان فيها عظيم{[61786]} الرحمة في تكرر القصص وشفع العظات ، وظهرت حجة الله على الخلق ، وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر القرآن{[61787]} ووفقه لفهمه واعتباره ، أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تبارك وتعالى { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان } وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعاراً برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه به
{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }[ إبراهيم : 34 ] ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار ومن أين للعباد بجميل هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يرادوا إلى بسط الدلالات وإيضاح البينات إن تعذر إليهم زيادة في البلاغ ، فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال { الرحمن علم القرآن } ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصاً ببني آدم بل بمشركي العرب منهم فقط ، فاتبعت سورة القمر بسورة الرحمن تنبيهاً للثقلين وإعذاراً إليهم وتقريراً للجنسين على ما أودع سبحانه في العالم{[61788]} من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى : { فبأيّ آلاء ربكما تكذبان } خطاباً للجنسين وإعذاراً للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان - انتهى .