اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ} (2)

قوله : «عَلَّم القُرآن » فيه وجهان{[54252]} :

أظهرهما : أنه «علم » المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم ، فعلى هذا المفعول الأول محذوف .

قيل : تقديره : علم جبريل القرآن .

وقيل : علم محمداً .

وقيل : علّم الإنسان ، وهذا أولى لعمومه ، ولأن قوله : «خَلَقَ الإنْسان » دال عليه .

والثاني : أنها من العلامة ، والمعنى : جعله علامة ، وآية يعتبر بها{[54253]} ، أي : هو علامة النبوة ومعجزة ، وهذا مناسب لقوله تعالى : { وانشق القمر } [ القمر : 1 ] . على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة ، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة ، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره ، وهو ما في القرآن ، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] ، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه : علمته .

فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني ؟ .

فالجواب : أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } [ آل عمران : 7 ] ؟ فالجواب : إن قلنا بعطف الرَّاسخين على «الله » فظاهر .

وإن قلنا بالوقف على الجلالة ، ويبتدأ بقوله : «والرَّاسِخُون » فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة ، وتأملها بقدر الإمكان ، فإنه يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة ، وكذا القول في تعليم القرآن ، أو يقال : المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه ، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء .

فصل في نزول هذه الآية

قال المفسرون : نزلت هذه الآية حين قالوا : وما الرحمان ؟ .

وقيل : نزلت جواباً لأهل «مكة » حين قالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [ النحل : 103 ] ، وهو رحمان «اليمامة » ، يعنون : مسيلمة الكتاب فأنزل الله - تعالى - { الرحمان ، علَّم القُرآن } أي : سهله لأن يذكر ويُقرأ .

كما قال : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } [ القمر : 22 ] .

قوله تعالى{[54254]} : «خلق الإنسان » .

قال ابن عباس وقتادة ، والحسن : يعني آدم - عليه الصلاة والسلام - .

قوله : «علَّمهُ البَيانَ » علمه أسماء كل شيء .

وقيل : علمه اللغات كلها ، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية . وعن ابن عباس أيضاً ، وابن كيسان : المراد بالإنسان هنا محمد - عليه الصلاة والسلام{[54255]} - والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلالة .

وقيل : ما كان وما يكون ؛ لأنه ينبئ عن الأولين ، والآخرين ، ويوم الدين .

وقال الضحاك : «البيان » : الخير والشر وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه مما يضره .

وقيل : المراد ب «الإنسان » جميع الناس ، فهو اسم للجنس ، والبيان على هذا الكلام : الفهم وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان .

قال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به{[54256]} .

وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم نظيره { عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4 ، 5 ] .

فصل في كيفية النظم

إنه علم الملائكة أولاً ، ثم خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، فيكون ابتدأ بالعلوي ، وقابله بالسفلي ، وقدم العلويات على السفليات ، فقال : «علم القرآن » إشارة إلى تعليم العلويين .

ثم قال : { خَلَقَ الإنسانَ ، علَّمهُ البيانَ } إشارة إلى تعليم السفليين ، وقال : { الشمس والقمر بحسبان } [ في العلويات ] {[54257]} { والنجم والشجر يسجدان } [ في السفليات ] {[54258]} .

ثم قال : { والسماء رَفَعَهَا } [ الرحمان : 7 ] ، وفي مقابلتها { والأرض وَضَعَهَا } [ الرحمان : 10 ] .

فصل في وصل هذه الجمل

هذه الجمل من قوله : { عَلَّمَ القُرآنَ ، خلق الإنسَانَ ، علَّمه البيان } جيء بها من غير عاطف ؛ لأنها سيقت لتعديد نعمه ، كقولك : «فلان أحسن إلى فلان ، أشاد بذكره ، رفع من قدره » فلشدة الوصل ترك العاطف ، والظاهر أنها أخبار{[54259]} .

وقال أبو البقاء{[54260]} : و«خَلَقَ الإنسَانَ » مستأنف ، وكذلك «علَّمَهُ » ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان مقدرة ، وقدَّر معها مرادة انتهى .

وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهر ما تقدم ، ولم يذكر الزمخشري غيره{[54261]} .

فإن قيل : لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه ، وهو متأخر عنه في الوجود ؟ .

فالجواب : لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه .

فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في «علَّمهُ البَيانَ » ، ولم يصرح بهما في «علَّم القُرآن » ؟ .

فالجواب : أن المراد من قوله «علَّمه البَيَانَ » تعديد النِّعم على الإنسان ، واستدعاء للشكر منه ، ولم يذكر الملائكة ؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان .

فإن قيل : بأنه علم الإنسان القرآن .

فيقال : بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال ، ثم بين كيفية تعليمه القرآن ، فقال : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } .

واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية{[54262]} .


[54252]:ينظر: الدر المصون 6/235.
[54253]:ضعّف هذا الرأي العلامة أبو حيان في البحر المحيط 8/187 فقال: وأبعد من ذهب إلى أن معنى "علم القرآن" جعله علامة وآية يعتبر بها.
[54254]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/572) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/190) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وذكره أيضا عن ابن جريج وعزاه إلى ابن المنذر.
[54255]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/267).
[54256]:ينظر تفسير البغوي (4/267).
[54257]:سقط من ب.
[54258]:سقط في ب.
[54259]:ينظر: البحر المحيط 8/187، الدر المصون 6/235.
[54260]:ينظر الإملاء 2/1197، الدر المصون 6/235.
[54261]:ينظر الكشاف 4/443، والدر المصون 6/235، والبحر المحيط 8/187.
[54262]:قال الرازي 29/76 ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله. ينظر: البرهان لإمام الحرمين 1/169، البحر المحيط للزركشي 2/5، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/70، سلاسل الذهب للزركشي ص 163، التمهيد للإسنوي ص 135، نهاية السول له 2/11، زوائد الأصول له ص 211، منهاج العقول للبدخشي 1/220، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص 41، التحصيل من المحصول للأرموي 1/193، والمحول للغزالي ص 70، المستصفى له 1/318، حاشية البناني 1/269، الإبهاج لابن السبكي 1/194، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 2/60، حاشية العطار على جمع الجوامع 1/352، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/42، التحرير لابن الهمام ص 16، تيسير التحرير لأمير بادشاه 1/49، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى 1/115، تقريب الوصول لابن جزي ص 71، نر البنود للشنقيطي 1/104، فواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري 1/177، شرح الكوكب الصغير للفتوحي ص 28.