واللمسة الرابعة في هذا المقطع هي تصوير العلم الإلهي المحيط بكل شيء ، المطلع على سر الإنسان وعلانيته ، وعلى ما هو أخفى من السر ، من ذوات الصدور الملازمة للصدور :
( يعلم ما في السماوات والأرض ، ويعلم ما تسرون وما تعلنون ، والله عليم بذات الصدور ) . .
واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بربه ، فيعرفه بحقيقته . ويمنحه جانبا من التصور الإيماني الكوني . ويؤثر في مشاعره واتجاهاته ؛ فيحيا حياة الشاعر بأنه مكشوف كله لعين الله . فليس له سر يخفى عليه ، وليس له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور .
وإن آيات ثلاثة كهذه لكافية وحدها ليعيش بها الإنسان مدركا لحقيقة وجوده ، ووجود الكون كله ، وصلته بخالقه ، وأدبه مع ربه ، وخشيته وتقواه ، في كل حركة وكل اتجاه . .
ثم ذكر عموم علمه ، فقال : { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : من السرائر والظواهر ، والغيب والشهادة . { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما فيها من الأسرار الطيبة ، والخبايا الخبيثة ، والنيات الصالحة ، والمقاصد الفاسدة ، فإذا كان عليمًا بذات الصدور ، تعين على العاقل البصير ، أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه ، من الأخلاق الرذيلة ، واتصافه بالأخلاق الجميلة .
ولما تقرر بما مضى إحاطة قدرته بما دل على ذلك من إبداعه للخلق على هذا الوجه المحكم وشهد البرهان القاطع بأن ذلك صنعه وحده ، لا فعل{[65712]} فيه لطبيعة ولا غيرها ، دل على أن {[65713]}ذلك بسبب شمول علمه إشارة إلى أن من لم يكن تام العلم فهو ناقص القدرة فقال : { يعلم } أي علمه{[65714]} حاصل في الماضي والحال والمآل يتعلق بالمعلومات على حسب تعليق قدرته على وفق إرادته بوجدانها { ما } أي الذي أو كل شيء { في السماوات } كلها .
ولما كان الكلام بعد قيام الدليل القطعي البديهي{[65715]} على جميع أصول الدين مع الخلص لأن بداهة الأدلة قادتهم إلى الاعتقاد أو إلى{[65716]} حال صاروا فيه أهلاً للاعتقاد ، والتحلي بحلية أهل السداد ، ولم يؤكد{[65717]} بإعادة الموصول بل قال : { والأرض } ولما ذكر حال الظرف على وجه يشمل{[65718]} المظروف ، وكان الاطلاع على أحوال العقلاء أصعب ، قال مؤكداً بإعادة العامل : { ويعلم } أي على سبيل الاستمرار { ما تسرون } أي{[65719]} حال الانفراد وحال الخصوصية مع بعض الإفراد . ولما كانت لدقتها وانتشارها بحيث ينكر بعض الضعفاء الإحاطة بها ، وكان الإعلان ربما خفي لكثرة لغط واختلاط{[65720]} أصوات ونحو ذلك أكد فقال : { وما تعلنون } من الكليات والجزيئات خلافاً لمن يقول : يعلم الكليات فقط{[65721]} ولا يعلم{[65722]} الجزئيات إلا بعد وجودها ، من فلسفي وغيره ، ولمن يقول : يعلم الكليات{[65723]} خاصة . ولما ذكر حال المظروف على وجه يشمل ظروفه وهي الصدور ، وكان أمرها أعجب من أمر غيرها ، قال مصرحاً بها إشارة إلى دقة أمرها مظهراً موضع الإضمار{[65724]} تعظيماً : { والله } أي الذي له الإحاطة التامة لكل كمال { عليم } أي بالغ العلم { بذات } أي صاحبة { الصدور * } من الأسرار والخواطر التي لم تبرز إلى الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أو لا ، وعلمه {[65725]}لكل ذلك{[65726]} على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي ، لأن نسبة المقتضي لعلمه وهو وجود ذاته على ما هي عليه من صفات الكمال إلى الكل على حد سواء ، فراقبوه في الإخلاص وغيره مراقبة من يعلم أنه بعينه لا يغيب عنه واحذروا{[65727]} أن يخالف السر العلانية ، فإن حقه أن يتقي ويحذر ، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وتقديم تقرير القدرة على تقريره{[65728]} لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولاً وبالذات ، وكمال قدرته يستلزم كمال علمه لأن من لا يكمل علمه لا تتم قدرته ، فلا يأتي مصنوعه محكماً .
قوله : { يعلم ما في السماوات والأرض } الله عليم بما في السماوات والأرض من أشياء وأحداث وأخبار { ويعلم ما تسرّون وما تعلنون } الله عليم بما تخفونه وما تظهرونه ويعلم فيكم السر والجهر ، لا يخفى عليه من ذلك شيء { والله عليم بذات الصدور } الله ذو علم بما يستكن في الصدور من أسرار وخفايا{[4550]} .