وفي نهاية الجولة يقرر حقيقة الموت وما بعده ، ويكشف لهم عن قلة الجدوى في فرارهم من الموت ، فهو حتم لا مهرب منه ، وما بعده من رجعة إلى الله ، وحساب على العمل حتم كذلك لا ريب فيه :
( قل : إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم . ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ، فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
وهي لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين . تقر في الأخلاد حقيقة ينساها الناس ، وهي تلاحقهم أينما كانوا . . فهذه الحياة إلى انتهاء . والبعد عن الله فيها ينتهي للرجعة إليه ، فلا ملجأ منه إلا إليه . والحساب والجزاء بعد الرجعة كائنان لا محالة . فلا مهرب ولا فكاك .
روى الطبري في معجمه من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعا : " مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب ، تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى ، حتى إذا أعيا وأنهر دخل جحره ،
فقالت له الأرض : يا ثعلب ! ديني . فخرج له حصاص . فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات " . .
الغيب : ما غاب علمُه عن الخلق .
ثم أخبر أن الموتَ عاقبة كل حيّ ، لا مهربَ منه فقال :
{ قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قل لهم أيها الرسول : إنكم ميتون ، ولا مهرب لكم من الموت ، ثم تُرجَعون إلى خالقكم الذي يعلمُ السر والعلانية ، فيخبركم بما كنتم تعملون ، وتحاسَبون على كل ما قلتموه وعملتموه . وأيّ تهديد ووعيد أشد من هذا القول لو كانوا يعقلون ! !
هذا وإن كانوا لا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم ، و يفرون{[1098]} منه [ غاية الفرار ] ، فإن ذلك لا ينجيهم ، بل لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد وكتبه عليهم .
ثم بعد الموت واستكمال الآجال ، يرد الخلق كلهم يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة ، فينبئهم بما كانوا يعملون ، من خير وشر ، قليل وكثير .
قال الزجاج : لا يقال : إن زيدا فمنطلق ، وها هنا قال : " فإنه ملاقيكم{[14965]} " لما في معنى " الذي " من الشرط والجزاء ، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه . قال زهير :
ومن هاب أسباب المنايا يَنَلْنَه *** ولو رام أسباب السماء بسُلَّمِ
قلت : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : " الذي تفرون منه " ثم يبتدئ " فإنه ملاقيكم " . وقال طرفة :
وكفى بالموت فاعلم واعظا *** لمن الموت عليه قد قُدِرْ
فاذكر الموت وحاذر ذكره *** إن في الموت لذي اللب عِبَرْ
ولما كان عدم تمنيهم علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لموافقته ما أخبر به ، وكان ذلك فعل من يعتقد أن التمني يقدمه عن أجله وعدمه يؤخره ، فصاروا بين{[65314]} التكذيب بما عندهم ونهاية البلادة ، أمره صلى الله عليه وسلم بتنبيههم على بلادتهم تبكيتاً لهم فقال : { قل } وأكد إعلاماً لهم بأنه يلزم من فعلهم هذا إنكار الموت الذي لا ينكره أحد فقال : { إن الموت } وزاد في التقريع والتوبيخ بقوله : { الذي تفرون منه } أي بالكف عن التمني الذي هو أيسر ما يكون مع أنه يوصلكم إلى تكذيب من أنتم جاهدون في تكذيبه ، وأكد وقوعه بهم لأن عملهم عمل من هو منكر له{[65315]} ، وربطه بالفاء جعلاً لفرارهم كالسبب له ، فإن الجبن من أسباب الموت مع ما يكسب من العار كما قال : " إن الجبان حتفه من فوقه " أي هو غالب عليه غلبة{[65316]} العالي على السافل فقال : { فإنه ملاقيكم } أي مدرككم في {[65317]}كل وجه{[65318]} سلكتموه بالظاهر أو{[65319]} الباطن .
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً - مع أنه لا بد منه - مهولاً ، نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال : { ثم تردون } ونبه بالبناء للمفعول على القهر منه سبحانه والصغار منهم{[65320]} وأنه عنده{[65321]} في غاية السهولة { إلى عالم الغيب } وهو كل ما غاب عن العباد فهو مخبر عن أخلاقكم عن علم . ولما كان بعض الفلاسفة يقر بعلمه تعالى بالكليات ، وينكر علمه بالجزئيات قال : { والشهادة } وهي كل ما ظهر وتشخص ولو لواحد من الخلق قبل كونه وبعد كونه . ولما كان التوقيف على الأعمال فظيعاً مرجفاً ، قال مسبباً عن الرد : { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى { بما كنتم } أي بما هو لكم كالجبلة { تعملون * } أي بكل جزء منه مما {[65322]}برز إلى الخارج{[65323]} ومما كان في جبلاتكم ولو لقيتم لعلمتموه ليجازيكم عليه .